خطبة جمعة بعنوان
( يسألونك عن الأهلة )
6/8/1445
كتبها / عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ ، بنى السماءَ فأحكمَ ما بنى، وأجزلَ العطاءَ لمن كانَ محسِناً ، وغفرَ الذنبَ لمنْ أساءَ وجنى ، أحمدُهُ حمداً كثيراً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسرًّا ومعلنًا ، وأشهدُ أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله دعا إلى الله فما ضعف وما ونى ، صلـى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه أهل العز والسنا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ عبادَ اللهِ : فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ القائلِ (وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )
فتباركَ اللهُ الذي ربطَ الحسابَ بالأهلةِ ، وربطَ بها حسابَ الشهورِ والدهورِ ، فقال العزيزُ الغفورُ : ( هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
قدَّرَ اللهُ القمرَ منازلَ ، حتى عادَ كالعرجونِ القديمِ ، وجعلَ له أحوالاً من الإهلالِ والإقمارِ ، والإبدارِ والإسرارِ ، لنعلمَ عددَ السنينَ والحسابِ ، فجاءتْ كثيرٌ من الأحكامِ الشرعيةِ ، مرتبطةً بالأوقاتِ وبالأهلةِ ، قالَ تعالى ( إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً ) وقالَ سبحانه ( شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقالَ عزَ وجل ( يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ ) ، فجعلَ اللهُ الأهلةَ ، مواقيتَ للعباداتِ العامةِ والخاصةِ ، للحجِّ والصيامِ والإفطارِ ، وصومِ الكفارات وصومِ النَّذْورِ ، وعدد الطلاقِ ومدد الإيلاءِ وغيرِها ، عباداتٌ وأحكامٌ موقوتةٌ بزمنِ ، وهذا الزمنُ مقيدٌ بالهلالِ ، تيسيراً على العبادِ ، قال اللهُ تعالى ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فمِنْ رحمةِ اللهِ عزَ وجلَ بعبادِه ، أنْ جعلَ لأوقاتِ العباداتِ علاماتٌ واضحةٌ ، لا يختصُّ بمعرفتِها فئةٌ دونَ فئةٍ ، بل يشتركُ في إدراكِها العامةُ والخاصةُ ، أُنيطتْ بأمورٍ محسوسةٍ ، وعلاماتٍ مشاهَدةٍ ملموسةٍ ، وكواكبَ سيارةٍ ، يعرفُها المتعلمُ والأميُّ ، والحاضرُ والبادُ ، ويهتدي بطلوعِها وغروبِها كافةُ العبادِ ، وما أيسرَ قولُ اللهِ تعالى ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وما أيسرَ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ( إذا أقبلَ الليلُ من هاهنا وأدبرَ النهارُ من هاهنا فقدْ أفطرَ الصائمُ )
أيها المسلمونَ ـ فالعمدةُ في دخولِ شهرِ رمضانَ وخروجِه ، وغيرِه من أشهرِ المسلمينَ ، ليسَ الحسابَ الفلكيَّ ، ولكنْ رؤيةَ الهلالِ ، ولا بأسَ بالإستعانةِ بالحسابِ الفلكيِّ ، لتسهيلِ رؤيتهِ ، ولكنْ لا يُعتمدُ عليهِ في دخولِ الشهرِ وخروجِهِ ، إنما يُعتمدُ على الرؤيةِ ، هذا ما دلتْ عليهِ ظاهرُ الأدلةِ بمنطوقِها ، وليسَ بمفهومِها ، والشارعُ علقَ دخولَ الشهرِ بإحدى طريقتينِ : إما رؤيةِ الهلالِ يوم التاسع والعشرين ، وإما إكمالِ العدةِ ثلاثينَ يوماً ، وهما طريقتانِ ميسّرتانِ ، يعرفُهما عمومُ الناسِ ، فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا ثلاثين)) أخرجَهُ البخاريُ ومسلمُ ، فهذا أمر بالصيام حال الرؤية وعن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تفطروا حتى تروهُ، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدةَ ثلاثين)) رواه مالكُ وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ ، وهذا نهيٌ عن الصيامِ حتى يُرى الهلالُ ، والشهرُ الهلاليُ ، يكونُ تارةً ثلاثينَ يوماً ، وتارةً تسعةً وعشرينَ يوماً ، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((الشهرُ يكونُ تسعاً وعشرينَ ، ويكونُ ثلاثينَ ، فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غُم عليكم فأكملوا العدةَ ثلاثين)) أخرجه البخاريُ ومسلمُ ، والحكمُ مبنيٌ على رؤيةِ الهلالِ بالبصرِ ، لا على تقديرِ وجودهِ في السماءِ ، لأننا متعبدونَ برؤيةِ الهلالِ فإذا لم يُرَ بالبصرِ ، أكملَ الناسُ عدةَ الشهرِ ثلاثينَ يوماً ،
إخوةَ الإسلامِ ، إنَّ ترائي الهلالِ منْ فروضِ الكفايةِ ، فمنْ يستطيعُ منكم ، أنْ يخرجَ ليتراءى الهلالَ في اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان فليفعل، ، فنسألُ اللهَ عزَ وجلَ ، أن يبلغَنا وإياكم شهرَ الرحمةِ والغفرانِ رمضانَ أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين ، وتاب علي وعليكم وعلى سائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعدُ أيها المسلمونَ : فأنَّ اختلافَ مطالعِ الأهلةِ ، بين البلدانِ والأقاليمِ ، أمرٌ متقرِّرٌ عندَ أهلِ الشأنِ ، ولكنَّ أهلَ العلمِ رحمُهُمُ اللهُ ، اختلفوا إذا رُئيَ الهلالُ في بلدٍ أو إقليمٍ ، فهل يلزمُ جميعُ البلدانِ الصيامَ ؟ فذهب جمهورُ أهلِ العلمِ ، إلى أنَّ لكلِّ قومٍ رؤيتُهم ، وذهبَ طوائفٌ من أهلِ العلمِ ، إلى القولِ بلزومِ الصومِ على الجميعِ ، والأمرُ في هذه المسألةِ ، وللهِ الحمدُ والمنةُ واسعٌ ، والاجتهادُ فيها فسيحٌ ، ونحمدُ اللهَ أنه لا تمرَ ساعةٌ واحدةٌ على وجهِ الأرضِ ، إلا وقائمٌ من المسلمينَ يصلي ، وربما غابت الشمسُ على مسلمٍ ، وطلعتْ في نفسِ الوقتِ على مسلمٍ آخرَ ، فلا ينبغي الخلافُ ، بسببِ اختلافهم في مداخلِ ومخارجِ شهورِهم ، فلا حرجَ أنْ يصومَ قطرٌ قبلَ قطرٍ ، وتصومَ دولةٌ قبلَ دولةٍ ، فلرُبَّما رأى هؤلاءِ الهلالَ ، ولم يرَهُ الآخرونَ أو غُمَّ عليهم فلم يروهُ فقَدَروا له ثلاثينَ يوماً ، لا حرجَ في ذلكَ ، ولو كانَ الذي صامَ أو أفطرَ ، مخالفاً لمنطقِ الرؤيةِ تشريقاً أو تغريباً ، لا حرجَ البته ، لكنْ الحرجَ أن يتفككَ المسلمونَ ، ولو وحَّدُوا رؤيتَهم ، فقد ذمَّ اللهُ اليهودَ على وحدةِ ظاهرِهم ، وتفرقِ باطِنِهِم ، قالَ تعالى : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )(الحشر: من الآية14)
فهذا عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما ، في مدينةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، لم يوافقْ معاويةَ رضي اللهُ عنه في الشامِ ، لا في يومِ الدخولِ ولا في يومِ الخروجِ ، ولم تتفرّقِ القلوبُ ، ولم يتشتّتْ شملُ الأمةِ ، صلوا وسلموا عليه ، كما أمركم ربُكم بالصلاةِ والسلامِ عليهِ ، فقالَ سبحانَه : ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )
اللهم صل وسلم
اللهم أعز الإسلام والمسلمين
المفضلات