خطبة جمعة بعنوان : لزوم الوحيين
عبدالله فهد الواكد
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللهِ : إِنَّهُ لاَ رُسُوخَ لِقَدَمٍ، وَلَا ثَبَاتَ لِمُعْتَقَدٍ، وَلَا بَقَاءَ لِفِكْرٍ، وَلَا تَحَقُّقَ لِوَعْدٍ، وَلَا أَمْنَ مِنْ عِقَابٍ، وَلَا سَلَامَةَ مِنْ فِتْنَةٍ ، إِلاّ بِالتَّمَسُّكِ الشَّدِيدِ بِوَحْيِ اللهِ الذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَهُوَ العِصْمَةُ الوَاقِيَةُ، وَالحُجَّةُ البَالِغَةُ، وَالسِّرَاجُ الذِي لَا يَخْبُو ضِيَاؤُهُ، وَلَا يَخْمُدُ سَنَاؤُهُ، إِنّهُ الوَحْيُ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ، وَحَذّرَهُ مِنْ الزَّيْغِ عَنْهُ، قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) وَيَقُولُ جَلّ جَلَالُهُ: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ)
وَأَخْبَرَ رَسُولُ الهُدَى أُمَّتَهُ أَنَّ الهُدَى فِي التَّمَسُّكِ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((إنّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا كِتَابُ اللهِ وَسُنَّتِي)) َروَاهُ الحَاكِمُ
وَكَانَ أَصْحَابُهُ رٍضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ يَتَلَقَّوْنَ الوَحْيَ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّسْلِيمِ، مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ، مُنْقَادِينَ لِحُكْمِهِ، خَاضِعِينَ لِإِرْشَادِهِ، لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَخَيَّرُونَ ، َولَا يُعَلِّلُونَ وَلَا يُشَكِّكُونَ ، وَلَا يُقَدِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ فِكْرًا وَلَا عَقْلًا ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ قُعُودٌ عَلىَ شَرَابٍ لَنَا، وَنَحْنُ عَلَى رَمْلَةٍ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ وَعِنْدَنَا بَاطِيَةٌ لَنَا، وَنَحْنُ نَشْرَبُ الخَمْرَ حِلاًّ، إِذْ قُمْتُ حَتَّى آتَيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمَ عَلَيْهِ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ قُولُهُ تَعَالَى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ) ، فَجِئْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ، وَبَعْضُ القَوْمِ شَرْبَتُهُ فِي يَدِهِ، قَدْ شَرِبَ بَعْضًا، وَبَقِيَ بَعْضٌ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ صَبُّوا مَا فِي بَاطِيَتِهِمْ، فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا، انْتَهَيْنَا رَبَّنَا). نَزَلَتْ الآيَةُ وَالكُؤُوسُ بَيْنَ الشِّفَاهِ المُتَلَهِّفَةِ ، وَالأَكْبَادِ المُتَعَطِّشَةِ ، فَحَالَ أَمْرُ اللهِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ كَاَنَ فِي يَدِهِ كَأْسٌ حَطَّمَهَا، وَمَنْ كَانَ فِي فَمِهِ جَرْعَةٌ مَجَّهَا، وَكُسِرَتْ جِرَارُ الخَمْرِ فِي المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ، حَتَّى سَالَتْ فِي الأَزِقَّةِ وَالطُّرُقَاتِ .
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ المَأْمَنَ الأَمِينَ وَالحِصْنَ الحَصِينَ مِنْ فِتَنِ عَصْرِكُمْ وَمُغْرِيَاتِهِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الشَّبَابِ وَهَفَوَاتِهِ وَالصِّبَا وَصَبَوَاتِهِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الأَفْكَارِ التِي تَقُودُ لِلشِّرْكِ وَالإِلْحَادِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ ، إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ، وَهُوَ المَخْرَجُ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ مِحْنَةٍ، يَقُولُ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ البُجَلِي فِي وَصِيَّتِهِ لِأَهْلِ البَصْرَةِ: (عَلَيْكُمْ بِالقُرْآَنِ فِإِنّهُ هُدَى النَهَارِ، وَنُورُ الليلِ المُظْلِمِ، فَاعْمَلُوَا بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جُهْدٍ وَفَاقَةٍ، فَإِنْ عَرَضَ بَلَاءٌ فَقَدِّمُوا أَمْوَالَكُمْ دَونَ دِينِكُمْ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا البَلَاءُ فَقَدِّمُوا دِمَاءَكُمْ دُونَ دِينِكُمْ، فَإِنَّ المَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ دِينَهُ، وَإِنَّ المَسْلُوبَ مَنْ سُلِبَ دِينَهُ، وَإِنّهُ لَا فَقْرَ بَعْدَ الجَنَّةِ، وَلاَ غِنًى بَعْدَ النَّارِ).
عِبَادَ اللهِ: تمَسَّكُوا بِهَذَا الوَحْيِ تَمَسُّكًا صَادِقًا، تُرَى آثَارُهُ فِي أَعْمَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمْ وَفِي كُلّ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِكُمْ، تَعِيشُوا سُعَدَاءَ، وَتَمُوتُوا لِدِينِكُمْ أَوْفِيَاءَ، وَلْيَعْرِضْ كُلُّ وَاحدٍ نَفْسَهُ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلْيَنْظُرْ أَهُوَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ التَّفْرِيطِ وَالإِضَاعَةِ ؟!! أَهُوَ مِنْ أَهْلِ الإِتِّبَاعِ أَمْ مِنْ أَهْلِ الإِبْتِدَاعِ؟!!، أَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّسْلِيمِ ، أَمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالفِكْرِ السَّقِيمِ ، وَلْيَأْخُذْ الحَذَرَ، وَلْيُصْلِحْ المَسَارَ، يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "رَحِمَ اللهُ عَبْدًا عَرَضَ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللهِ حَمِدَ اللهَ، وَسَأَلَهُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللهِ أَعْتَبَ نَفْسَهُ، وَرَجَعَ مِنْ قَرِيبٍ".
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ بَيْنَ ظَهْرَانِيكُمْ كَنْزًا لَا يَنْفَدُ، وَمَنْهَلاً عَذْبًا لَا يَنْضَبُ؛ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُوِلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَيْنَ العَامِلُونَ بهِمَا؟ وَأَيْنَ المُنْقَادُونَ لَهُمَا؟ وَأَيْنَ المُبَادِرُونَ بِالإِمْتِثَالِ، وَأَيْنَ المُسْتَجِيبُونَ فِي الحَالِ؟
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ وَعَظَتْنَا مَوَاعِظُ القُرْآَنِ، وَأَنْذَرَتْنَا نُذُرُ الزَّمَانِ، وَحَذَّرَنَا رَسُولُ اللهِ أَنْ نَرْتَكِسَ فِي حَمْأَةِ الجَاهِلِيَّةِ، أَوْ نَقَعَ فِي أَوْهَاقِ العِصْيَانِ، فَهَلْ انْتَفَعْنَا بِهَذِهِ المَوَاعِظِ ؟! إِنَّنَا نُصْبِحُ وَنُمْسِي تَحْتَ طَائِلَةِ وَعِيدٍ يَقْرَعُ القُلُوبَ، وُيُخِيفُ النُّفُوسَ، فَهَلْ أَخَذْنَا حِذْرَنَا ، وَلَزِمْنَا أَمْرَنَا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم )
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ التَّعَدِّي عَلَى نُصُوصِ الوَحْيِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِإسْقَاطِ هَيْبَتِهَا، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا، وَالشُّعُورِ بِعَدَمِ وَفَائِهَا لِمُسْتَجِدَّاتِ الحَيَاةِ، أَوْ تَطْوِيعِهَا وَتَحْرِيفِهَا وَلَوْيِ أَعْنَاقِهَا، وَخَفْضِ شَوْكَتِهَا، لِتَكُونَ مُلَائِمَةً لِلْعَصْرِ الحَدِيثِ فِي قَضَايَا يَرَى بَعْضُ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَهَانَ فِي نُفُوسِهِمْ دِينَ اللهِ أنَّهَا تُعِيقُ الرُّقِيَّ وَالتَّقَدُّمَ ، وَتُكَبِّلُ العَقْلَ وَالتَّفْكِيرَ ، وَلْنَحْذَرْ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَمَاجِنٍ ، يُمَاحِكُ بِزُبَالَةِ أَفْكَارِهِ ، قَضَايَا جَاءَتْ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ فِيهَا حَاسِمَةً وَاضِحَةً سَاطِعَةً، كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ، إٍنَّ هَذَا يَعْنِي ضَيَاعَ الأُمَّةِ، وَفَقْدِهَا لِهَوِيَّتِهَا وَكَرَامَتِهَا، وَدِينِهَا الذِي شَرَّفَهَا اللهُ بِحَمْلِهِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : إِنَّ الوَاجِبَ عَلَيْنَا تَعْظِيمُ الوَحْيَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، تَعْظِيمًا يَمْنَعُنَا مِنْ مُخَالَفَتِهِمَا أَوْ مُوَالاَةِ مَنْ يُكَذِّبُ بِهِمَا، أَوْ السُّكُوتُ عَلَى مَنْ يَجْتَرِئْ عَلَيْهِمَا، أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ فِيهِمَا ،
فَيَا أَيُّهَا المُسْلِمُوَنَ، تَمَسَّكُوا بِحَبْلِ الإِسْلَامِ وَلَوْ أَفْلَتَهُ النَّاسُ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنْ فِتَنِ هَذَا الزَّمَانِ، فَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخَشْنِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: ((إِنّ مِنْ وَرَاَئِكُمْ أَيَّاُمُ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)) يَعْنِي الصَّحَابَةَ رَوَاهُ أَبُو دَاود[3]. فَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ عُزُوفِ النَّاسِ عَنْ الدِّينِ فَلَهُ بِعَمَلِهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
عِبَادَ اللِه، ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا )
المفضلات