« فوائد دراسة السيرة النبوية »
محمد بن سليمان المهوس /جامع الحمادي بالدمام في 17/5/ 1445هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ الْيَوْمَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَى دِرَاسَةِ تَارِيخِهَا الْمَجِيدِ، وَمَجْدِهَا التَّلِيدِ، وَعِزِّهَا وَشُمُوخِهَا الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ وَذَلِكَ بِدِرَاسَةِ سِيرَةِ نَبِيِّهَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَالاِعْتِزَازِ بِهَا؛ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا لِتَحْصُلَ عَلَى السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْفَوْزِ وَالْفَلاَحِ فِي الْعُقْبَى، وَلِتَكُونَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فِي صِدْقِ اتِّبَاعِهَا لِنَبِيِّهَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ حَيْثُ إِنَّهُ الأُسْوَةُ لِلْعَالَمِينَ، وَالْحُجَّةُ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21].
فَكُلُّ الأَعْمَالِ تُوزَنُ بِمُوَافَقَتِهَا لِهَدْيِهِ وَمَنْهَجِهِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُوَافِقًا لِهَدْيِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَهُوَ الْمَقْبُولُ، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا فَهُوَ الْمَرْدُودُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7] وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
[رواه مسلم].
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الْمِيزَانُ الأَكْبَرُ، فَعَلَيْهِ تُعْرَضُ الأَشْيَاءُ؛ عَلَى خُلُقِهِ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ الْبَاطِلُ».
[الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ].
وَفِي دِرَاسَةِ وَفَهْمِ سِيرَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَوْنٌ عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ، بَلْ عَوْنٌ لِفَهْمِ الدِّينِ كُلِّهِ؛ عَقِيدَةً وَعِبَادَةً ، خُلُقًا وَمُعَامَلَةً؛ لأَنَّ حَيَاتَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهَا عَمَلٌ لِهَذَا الدِّينِ؛ وَالْعَمَلُ بِمَا فِي كِتَابِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4]؛ أَيْ: عَلَى دِينٍ كَامِلٍ تَامٍّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ»
[رواه أبو داود ، وصححه الألباني].
وَفِي دِرَاسَةِ وَفَهْمِ سِيرَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَثَرٌ فِي زِيَادَةِ مَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْمِيقِهَا؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [ متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].
وَأَيْضاً فِي مَعْرِفَةِ سِيرَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَحْوَالِه وَأَيَّامِهِ، وَأَخْلاَقِهِ وَشَمَائِلِهِ بُعْدٌ عَنِ الْجَهَالَةِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ بِنَا وَنَحْنُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَأَيْضًا بُعْدٌ عَنِ الإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ، وَالتَّفْرِيطِ فِي اتِّبَاع سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ؛ فَقَدْ نَهَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الإِطْرَاءِ وَالْمَدْحِ الْمُبَالَغِ فِيهِ الْمُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى؛ فَقَالَ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ، وَرَسُولُهُ» [رواه البخاري] وَنَهَى أَيْضًا عَنِ التَّفْرِيطِ فِي تَرْكِ سُنَّتِهِ، فَقَالَ: «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» [ رواه أبوداود ، وصححه الألباني ].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا شَفَاعَتَهُ، وَأَوْرِدْنَا حَوْضَهُ، وَاجْمَعْنَا بِهِ فِي الْجَنَّةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ- لَيْسَتْ كَالْقَصَصِ الَّتِي تُرْوَى لأَحْدَاثِ الْمَاضِي فَقَطْ فِي مُنَاسَبَاتِ الاِحْتِفَالاَتِ الْبِدْعِيَّةِ، أَوْ لِلتَّنَدُّرِ بِهَا فِي الْمَجَالِسِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ أَحْدَاثٌ مَضَتْ لأَخْذِ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ، وَعَمَلٍ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ لأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِسِيرَةِ الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ، وَالنِّعْمَةِ الْمُسْدَاةِ نَبِيِّنَا وَقُدْوَتِنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي فِي اتِّبَاعِهِ الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ، وَالسَّعَادَةُ وَالْفَلاَحُ؛ - قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله: وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» [ رواه البخاري ].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم]
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلاَةَ أُمُورِنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ جَمِيعَ وُلاَةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَمَلِ بِكِتَابِكَ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِكَ، وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ﷺ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
المفضلات