الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَجَلِّ الْمِنَحِ أَنْ يُوَفَّقَ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ لأُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَمْرُ الأَوَّلُ: إِحْسَانُ الْعَمَلِ وَإِتْقَانُهُ.
الأَمْرُ الثَّاِني: الْخَوْفُ عَلَى رَدِّ الْعَمَلِ، وَعَدَمِ قَبُولِهِ.
الأَمْرُ الثَّالِثُ: ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَى الْعَبْدِ خَيْرًا.
فَالْحِرْصُ عَلَى إِحْسَانِ الْعَمَلِ وَإِتْقَانِهِ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ: دَأْبُ الصَّالِحِينَ، وَسِمَةُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُفِّقُوا إِلَى إِخْلاَصِ الْعَمَلِ للهِ فِي كُلِّ طَاعَةٍ وَقُرْبَةٍ للهِ، وَصَدَقُوا فِي مُتَابَعَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – فِيهَا؛ وَذَلِكَ لأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ وَأَحَبَّهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195] وَقَالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2] قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالىَ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ قَالَ: هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَليٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ العَمَلَ إِذاَ كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا.
الخَالِصُ أَنْ يَكُونَ للهِ، وَالصَّوابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110] [«مدارج السّالكين» لابن القيّم: (2/ 93)].
وَقَدْ جَمَعَ هَؤُلاَءِ بَيْنَ إِحْسَانِ الْعَمَلِ وَإِتْقَانِهِ، وَبَيْنَ الْخَوْفِ مِنْ رَدِّهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ، وَهَذَا هُوَ عَمَلُ الأَتْقِيَاءِ الأَنْقِيَاءِ؛ لأَنَّ الْعَمَلَ لاَ قِيمَةَ لَهُ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ ؛ وَهَذَ هُوَ التَّوْفِيِقُ بِعَيْنِهِ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَديثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» [صححه الألباني].
وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – مَعَ اجْتِهَادِهِمْ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَخْشَوْنَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُهُمْ، وَأَلاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ؛ لِرُسُوخِ عِلْمِهِمْ وَعَمِيقِ إيمَانِهِمْ ؛ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: « أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ» [رواه البخاري]، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «لَأَنْ أَسْتَيْقِنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ مِنِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [ المائدة: 29 ]» [رواه ابن أبي حاتم وحسنه].
وَقَالَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: «لَحَرْفٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أُعْطَاهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا؛ فَقِيلَ لَهُ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: أَنْ يَجْعَلَنِي اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 29 ]».
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ الْعَمَلِ وَخَيْرَ الْمَسْأَلَةِ، وَخَيْرَ الثَّوَابِ، وَنَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ، وَخَوَاتِمَهُ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَى الْعَبْدِ بِخَيْرٍ مِنْ عَلاَمَاتِ التَّوْفِيقِ وَالْمُبَشِّرَاتِ الْعَاجِلَةِ لِلْعَبْدِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَا اللهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمِدَهُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ وَطَلَبِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ».
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنَ مَالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَجَبَتْ»، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ– مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ».
وَعَنْ أَبي الأَسْوَدِ قَالَ: قَدِمْتُ المدِينَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازةٌ، فأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِها خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بأُخْرى، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِها خَيرًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا، فَقَال عُمَرُ: وَجَبَتْ، قَالَ أَبُو الأَسْودِ: فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أميرَ المُؤمِنينَ؟ قَالَ: قُلتُ كما قَالَ النَّبيُّ ﷺ: « أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لهُ أَربعةٌ بِخَيرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجنَّةَ، فَقُلنَا: وثَلاثَةٌ؟ قَالَ: وثَلاثَةٌ، فقلنا: واثنانِ؟ قال: واثنانِ » ، ثُمَّ لم نَسْأَلْهُ عَن الواحِدِ. [ رواه البخاري]
فَاتَّقُوا اللَّهَ - أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ – وَأَحْسِنُوا العَمَلَ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ ، وَسَلُوا رَبَّكُمْ قَبُولَ أَعْمَالِكُمْ ؛ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِينَ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقَائِلُ سُبْحَانَه: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ - ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].