خطبة جمعة ( حسن الظن بالله تعالى )
جامع الواكد بحائل
عبدالله فهد الواكد
8/10/1444 هـ
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ ، مَلُكوتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَهُ ، وَالأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِين
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ : فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ القَائِلِ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ)
يَقُولُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُناَ الإِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ القُرْآنِ ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأُلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ) ، هَذِهِ العِبَارَاتُ المُشْرِقةُ بِإِجْلَالِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمْ تُرَبِّي فِي النَّفْسِ تَعْظِيمَ الخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَكَمْ تُبَيِّنُ عَظَمَةَ الخَالِقِ وَضَعْفَ المَخْلُوقِ ،فَإِنَّ المَخْلُوقَ أَيُّهَا النَّاسُ مُقَيَّدٌ بِالعَجْزِ ، وَمَحْجُوبٌ بِالجَهْلِ ، أَمَّا اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَوَجَبَ عَلَى العَبْدِ أَنْ يَلُوذَ عَنْ عَجْزِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ، وَعَنْ جَهْلِهِ بِعِلْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : أُمُورٌ يَنْظُرُ إِلَيْهَا البَشَرُ بِنَظَرِهِم المَحْدُودِ، وَيَقِيسُونَهَا بِمَقَايِيسِهِم القَاصِرَةِ ، فَيَرَوْنَ فِيهَا مَا يَكْرَهُونَ، وَيَسْتَدْفِعُونَهَا فَلَا يَقْدِرُونَ، وَيَكُونُ للهِ فِيهَا مِنْ اللُّطْفِ وَالخِيَرَةِ مَا تَقْصُرُ عَنْهَا عُيُونُهُم ، وَتُخْفِقُ عَنْهَا عُلُومُهُم ، وَتَكِلُّ عَنْ إِدْرَاكِهَا فُهُومُهُم ، نَبِيُّ اللهِ يُوسُفُ عَلَيهِ السَّلَامُ , ذَلِكَ الصَبِيُّ المُكْتَنِفُ حَنَانَ أَبِيهِ الرَّحِيمِ المُشْفِقِ يَخَافُ عَلَى أبْنِهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي نُزْهَةٍ مَعَ إِخْوَتِهِ ، ثَمَّ يُنْتَزَعُ مِمَّا هُوَ فِيهِ لِيُلْقَى فِي غَيَابَةِ الجُبِّ ثُمَّ فِي ظُلُمَاتِ السِّجْنِ ، أَلَمْ يَكُنْ مِقْيَاسُ البَشَرِ عَلَى أَنَّهُ المُصَابُ الجَلَلُ ؟ أَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَيْهِ بِإِشْفَاقٍ وَرَحْمَةٍ ، أَلَمْ تَذْرُفْ دُمُوعُنَا حِينَمَا نَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ ، صَبِيُّ حُرِمَ حَنَانَ الأُبُوَّةِ، يَتَعَرَّضُ لِلرِّقِّ وَالسِّجْنِ. هَذِهِ نَظْرَتُنَا كَبَشَرٍ ! وَلَكِنَّ عِلْمَ اللهِ، وَحِكْمَةَ اللهِ ، تَدَّخِرُ لِيُوسُفَ شَيْئاً آخَرَ، تَذْخَرُ لِيُوسُفَ مَا عَزَبَ عَنْ عِلْمِ البَشَرِ ، تَذْخَرُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، تَذْخَرُ لَهُ حُكْمَ مِصْرَ، تَذْخَرُ لَهُ أَنْ تَكُونَ خَزَائِنُ مِصْرَ بِيَدِهِ، فَإِذَا بِيُوسُفَ يَخْرُجُ مِنَ السِّجْنِ إِلَى الحُكْمِ ، وَإِذَا الأَبُ الذِي عَمِيَ عَلَيْهِ حُزْناً يَقَرُّ بِهِ عَيْناً، وَإِذَا الإِخْوَةُ الذِينَ أَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَقُولُونَ : ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) ، فَمَا الذِي سَيَبْقَى لِيُوسُفَ لَوْ بَقِيَ حَالُهُ كَمَا كَانَ ! سَيَبْقَى إِبْنًا لِأَبٍ شَيْخٍ كَبِيرٍ ، تَضْعُفُ قُوَّتُهُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ ، يُنْتَزَعُ يُوسُفُ مِنْ شَفَقَةِ وَالِدِهِ فِي مَشْهَدٍ ظَاهِرُهُ المِحْنَةُ وَبَاطِنُهُ المِنْحَةُ .
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ : إِنْتَقَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ السَّبْعِ العِجَافِ إِلَى قَرِيبِهِمْ فِي مِصْرَ ، فَكَانَتْ بِدَايَةَ النِّهَايَةِ ، حَيْثُ وُلِدَ مْنْهُمْ مُوسَى فَقَضَى اللهُ عَلَى يَدَيْهِ هَلَاكَ طَاغِيَةٍ لَمْ تَشْهَدْ الْأَرْضُ مِثْلَهُ فَرْعَنَةً وَاسْتِعْبَادًا وَطُغْيَاناً ، قَالَ اللهُ عَنْهُمْ ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ) مُوسَى الذِي عَاشَ رَبِيباً لِفِرْعَونَ ، يَعِيشُ فِي بَلَاطِ المُلْكِ ، وَفِي نَعِيمِ التَّرَفِ بِمُتَعِ مُلُوكِ الفَرَاعِنَةِ، ثُمَّ يُقَدِّرُ اللهُ بِقَدَرِهِ فَإِذَا المَلأُ يَأْتَمِرُونَ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَإِذَا بِهِ يَخْرُجُ مِنْ المَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ، وَيِصُلُ إِلَى مَدْيَنَ لَاغِباً سَاغِباً ، يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ بِذِلَّةٍ وَمَسْكَنَةٍ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، فَطَفِقَ الجَهَلَةُ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ : فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فُرْصَةَ المُلْكِ ، فَهُوَ خَلِيفَةُ فِرْعَوْنَ ،
أَمَّا حِكْمَةُ اللهِ فَكَانَتْ تَدَّخِرُ لِمُوسَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قُصُورِ فِرْعَونَ وَبَسَاتِينِهِ ، وَنَعِيمِهِ وَتَرَفِهِ ، تَدَّخِرُ لَهُ شَرَفَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةَ، تَدَّخِرُ أَنْ يَكُونَ كَلِيماً لِلرَّحْمَانِ ، يُكَلِّمُهُ رَبُّهُ بِلَا تُرْجَمَان ، تَدَّخِرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الخَمْسَةِ الأَوَائِلِ فِي تَأْرِيخِ البَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، مِنْ أُولِيِ العَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ.
ثُمَّ تَعَالَ أُرِيكَ مَشْهَدَ المُسْلِمِينَ ، رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَاَلسَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَهُمْ يَتَسَلَّلُونَ مُسْتَخْفِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ ، ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يُبَلِّغُونَ الرِّسَالَةَ أَصْقَاعَ المَعْمُورَةِ ، وَيُنْصَرُونَ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَيَضَعُونَ حَجَرَ الأَسَاسِ لِقِيَامِ الإِسْلَامِ ، الذِي تُؤَدُّونَ فِي هَذِهِ الجُمَعَةِ أَحَدَ شَعَائِرِهِ ، وَلَا تَزَالُ تَجِدُ فِي حَيَاةِ الأَفْرَادِ وَالجَمَاعَاتِ مِنْ الوَقَائِعِ الكَثِيرَةِ المُمَاثِلَةِ مَا تُثْلِجُ القَلْبَ بِبَرْدِ اليَقِينِ إِلَى خِيَرَةِ اللهِ.
فَهَاهُمْ أَسَاؤُو لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالقَوْلِ وَالرُّسُومَاتِ فَآلَمَناَ ذَلِكَ ، فَإِذَا بِفُضُولِ القَوْمِ يَدْفَعُهُمْ إِلَى قِرَاءَةِ سِيرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاَ ،
وَفِي رَمَضَانَ المُنْصَرِمِ ، رَأَى أَكْثَرَ مِنْ مِلْيَارٍ مِنْ النَّاسِ ، قِطَّةً تَتَسَلَّقُ إِمَامًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، وَتَقِفُ عَلَى كَتِفِهِ وَتَشُمُّهُ فَأَحْسَنَ مُلَاطَفَتَهَا بِيَدِهِ ، فَتَحَرَّكَتْ قُلُوبُ المَلَايِينِ مِنْهُمْ ، وَاعْتَنَقُوا الإِسْلَامَ .
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : قَدْ يَمْرَضُ العَبْدُ ، وَقَدْ يُصِيبُهُ الفَقْرُ وَيَغْشَاهُ العَوَزُ وَالفَاقَةُ ، وَقَدْ يُحْرَمُ الذُّرِّيَّةَ وَقَدْ يَتَغَرَّبُ عَنْ أَهْلِهِ وَقَدْ يَفْقِدُ شَيْئًا مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا ، فَيَرَى أَنَّ هَذَا مُصَاباً عَظِيماً ، وَلَكِنَّ العِبْرَةَ بِالعَاقِبَةِ ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الثانية
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : ثِقُوا بِمَا عِنْدَ اللهِ ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ ، فَمَهْمَا مَرَّ بِالإِنْسَانِ مِنْ شَظَفِ العَيْشِ ، وَقِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ ، وكَثْرَةِ المَصَائِبِ وَالهُمُومِ ، فَهُوَ لِحِكْمَةٍ وَخِيَرَةٍ يَعْلَمُهَا اللهُ ، لاَ تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ عَاجِزٌ عَنِ الفَهْمِ وَالإِنْتِظَارِ (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) فَإِذَا غَضِبَ الإِنْسَانُ عَلَى أَهْلِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَنْ آذَاهُ وَظَلَمَهُ ، طَفِقَ يَلْعَنُهُ وَيَدْعُو عَلَيْهِ ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ يَتَجَاوَزُ بِهِ الأَمْرُ حَتَّى يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقِلَّةِ الصَّبْرِ وَعَدَمِ إِحْسَانِ الظَّنِّ بِاللهِ (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ )
فَعَلَيْنَا أَنْ نُرَبِّيَ أَنْفُسَنَا عَلَى إِحْسَانِ الظَّنِّ بِاللهِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي الكَوْنِ كُلُّهُ مِنْ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ وَظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ لَا يَحْدُثُ فِي غَفْلَةٍ مِنَ اللهِ، وَلَا فِي جَهْلٍ مِنْ اللهِ، وَلَا فِي عَجْزٍ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ تَسْتَعْجِلُونَ
( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فَاسْعَوْ عَلَى أَرْزَاقِكُمْ يَأْتِكُمْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُمْ فَهُوَ عِصْمَةُ أَمْرِكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَغْيَرُ مِنْكُمْ عَلَى دِينِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي )
رَبَّنَا آمَنَّا بِكَ وَتَوَكَّلْنَا عَلَيْكَ وَأَسْلَمْنَا لَكَ وَاعْتَصَمْنَا بِكَ
صلوا وسلموا على رسول الله
المفضلات