خطبة بعنوان
( مدرسة الصيام )
1444 ه
كتبها / عبدالله فهد الواكد
جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ ما انتظمتْ بتدبيرِهِ الأمُورْ ، وتوالتْ بحكمتِهِ السّنينُ والشهورْ ، وسبحتْ بفناءِ صنعتِهِ أسرابُ الطُيورْ، وسعَ المُقترفين بعفوِهِ وغُفرانِهْ ، وعمَّ المُفتقرين بفضلِهِ وإحسانِهْ ،خرتْ لعظمتِهِ جباهُ العابدينْ ، فطوبى لمن عبدْ ، واعترفتْ بوحدانيتِهِ قُلوبُ العارفينْ ، فويلٌ لمنْ جَحَدْ ، كم سُئلَ فأجزلْ ، وكم عُصي فأمْهلْ ، لا راتقَ لما فتقْ ، ولا فاتقَ لما رتقْ ، ولا رازقَ لمن حرمْ ، ولا حارمَ لمن رزقْ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلم تسليماً كثيراً
أما بَعْدُ عِبَادَ اللهِ : (فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ القَائِلِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُسْلِمُونَ : مَا ظَنُّكُمْ بِهَذِهِ الفَرْحَةِ ، فَرْحَةِ المُؤْمِنِ عِنْدَ فِطْرِهِ ، هَلْ هِيَ فَرْحَةُ أكْلٍ وَشُرْبٍ ، هَلْ فَرِحَ حِينَمَا فُسِحَ لَهُ المَجَالُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُقَيَّداً ، لَوْ أَنَّ المُؤْمِنَ تَعَمَّدَ وَأكَلَ أَوْ شَرِبَ بِدُونِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ، قَبْلَ المَغْرِبِ بِعَشْرِ دَقَائِقَ فَقَطْ ، هَلْ تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الفَرْحَةُ ؟ لَا وَاللهِ لَنْ تَحْصُلَ لَهُ ، إِنَّمَا يَشْعُرُ بِالضِّيقِ وَالأَسَى وَالحَسْرَةِ ، فَمَا هُوَ سِرُّ تِلْكَ الفَرْحَةِ يَا تُرَى ؟ إِنَّ تِلْكَ الفَرْحَةَ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ ، هِيَ فَرْحَةُ الإِنْتِصَارِ عَلَى النَّفْسِ ، وَالتَّفَوُّقُ عَلَى الهَوَى ، وَالفَوْزُ بِالأَجْرِ ، إِنَّهَا لَذَّةُ الطَّاعَةِ ، وَإِتْمَامُ الصِّيَامِ ، إِنَّهَا نَشْوَةُ الإِنْتِصَارِ عَلَى عَدُوِّ اللهِ الشَّيْطَانِ ، إِنَّهَا وَإِيمَ اللهِ الوُقُوفُ عَلَى قِمَّةِ العُبُودِيَّةِ وَشَرَفِ الإِنْتِمَاءِ لِلْإِسْلَامِ عَقِيدَةً وَعَمَلاً ، إِنَّهَا أَسْمَى مَعَانِي الإِسْتِسْلَامِ ، شَرَفٌ وَعِزَّةٌ ، أَيْ وَاللهِ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ ، تَجْلِسُ أَمَامَ مَا لَذَّ وَطَابَ ، مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ، ثُمَّ تَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لَكَ بِذَلِكَ ، إِرْفَعْ رَأْسَكَ بَيْنَ الوَرَى ، وَامْشُقْ قَامَتَكَ فَوْقَ الثَّرَى ، فَقَدْ فَضَّلَكَ اللهُ عَلَى الأُمَمِ الكَافِرَةِ ، وَالعَقَائِدِ الضَالَّةِ ، وَالمَنَاهِجِ المُنْحَرِفَةِ ، إِنَّهَا السَّعَادَةُ وَرَبُّ العِبَادِ ، ( الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) هَذِهِ العِبَادَةُ ، إِخْتَارَهَا اللهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ ، وَهُوَ يَجْزِي بِهَا ، فَالحَمْدُ للهِ ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ. أَيُّهَا المُسْلِمُ : أَنْتَ ذُو عَزِيمَةٍ ، وَصَاحِبُ شَكِيمَةٍ ، تَمْتَلِكُ قُوَّةً وَإِرَادَةً تَكْسُرُ بِهَا الشَّهَوَاتِ ، وَتُقَارِعُ بِهَا المَلَذَّاتِ ،
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : أَتَعْلَمُونَ أَنَّ شَهْوَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَعَلَى أنَّهُماَ مِنَ صُلْبِ الحَيَاةِ ، إِلَّا أنَّهُما فِي أَدْنَى الشَّهَوَاتِ ، فَإِذَا كُسِرَتْ هَذِهِ الشَّهَوَاتُ الدُّنْيَا بِالصِّيَامِ ، خَضَعَتْ جَرَّاءَهَا الشَّهَوَاتُ الأُخْرَى ، وَانْكَسَرَتْ وَتَدَاعَتْ وَاحِدَةً إثْرَ أُخْرَى ، رَمَضَانُ أَيُّهَا الصَّائِمُونَ : مَدْرَسَةٌ لِكَبْحِ جِمَاحِ المَلَذَّاتِ ، وَمَشْفَى لِأَمْرَاضِ القُلُوبِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَشَهْرُ تَرَابُطٍ إِجْتِمَاعِيٍّ ، وَتَكَاتُفٍ أُسَرِيٍّ ، رَمَضَانُ مَعْهَدٌ كَبِيرٌ جِدًّا ، يَمْتَدُّ مِنْ شَرْقِ بِلَادِ الإِسْلَامِ إِلَى غَرْبِهَا ، يَأْخُذُ فِيهِ المُسْلِمُونَ جَمِيعاً ، دَوْرَةً تَدْرِيبِيَّةً ، لِرَفْعِ رُوحِ المَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّكَاتُفِ وَالتَّآلُفِ ، وَنَبْذِ الخُصُومَةِ وَالعَدَاءِ وَالبَغْضَاءِ ، شَهْرٌ كَامِلٌ يُهَذِّبُ النُّفُوسَ ، وَيَرْفَعُ مَعَايِيرَ القُرْبِ مِنَ اللهِ ، شَهْرٌ كَامِلٌ يَتَدَرَّجُ فِيهِ الجُهْدُ كُلَّمَا تَدَرَّجَتْ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ ، كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا دَخَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرٌ ، دَخَلَ مَعَهاَ بِجُهْدٍ آخَر ، حَتَّى إِذَا دَخَلَتِ العَشْرُ الأَوَاخِرُ ، شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ ، وَاعْتَكَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام ُ،
أَرَأَيْتُمْ أَنَّ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ عَظِيمَةٌ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فَالمَقْصُودُ مِنْ الصِّيَامِ ، هُوَ تَحْقِيقُ التَّقْوَى ، فِي نُفُوسِكُمْ وَفِي ذَوَاتِكُمْ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُورِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)
أَيُّهاَ المُسْلِمُ الكَرِيمُ : قَلَبْتَ صَفْحَةً جَدِيدَةً فِي حَيَاتِكَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ ، هِيَ صَفْحَةُ عَزِيمَتِكَ الصَّادِقَةِ وَإِيمَانُكَ وَاحْتِسَابُكَ ، فَظَفَرْتَ بِالأَجْرِ وَرِضَى اللهِ ، غَيَّرْتَ نَمَطَ حَيَاتِكَ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ ، وَأَصْبَحَتْ تِلْكَ المُعَوِّقَاتُ التِي جَعَلَهَا الشَّيْطَانُ جِبَالاً فِي حَيَاتِكَ ، أَصْبَحَتْ بِإِيمَانِكَ وَعَزِيمَتِكَ كَثِيباً مَهِيلاً ، فَهَا أَنْتَ ، تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ ، وَتَمْتَلِكُ إِرَادَةً عَظِيمَةً ، تَسْتَطِيعُ بِهَا أَنْ تُغَيِّرَ نَفْسَكَ بَعْدَ رَمَضَانَ ، أَنْ تَفْعَلَ الخَيْرَاتِ ، وَتَبْتَعِدَ عَنِ المُنْكَرَاتِ . نَحْنُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ خَطَّاؤُونَ ، فَلَا عِصْمَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التوَّابُونَ ) ، نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العَوْنَ عَلَى العِبَادَةِ وَالإِسْتِقَامَةِ قَالَ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) الرعد )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا مزيدًا
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : لَا تَزَالُونَ فِي هَذِهِ المَدْرَسَةِ العَظِيمَةِ رَمَضَانَ ، وَالكِتَابُ المُقَرَّرُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْرُسُوهُ وَتُذَاكِرُوهُ ، هُوَ كِتَابُ اللهِ ، هُوَ القُرْآنُ ، الذِي أُنْزِلَ فِي هَذَا الشَّهْرِ ، قَالَ تَعَالَى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) فَفِي هَذَا الكِتَابِ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُهُ فِي حَيَاتِكَ ، كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُهُ فِي طَرِيقِكَ إِلَى اللهِ ، كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُهُ لإِصْلَاحِ نَفْسِكَ ، ُكلُّ آيَةٍ فِيهِ تُخَاطِبُكَ ، آيَةٌ تَحُثُّكَ وَآيَةٌ تُحَذِّرُكَ ، آيَةٌ تَأْمُرُكَ وَأُخْرَى تَنْهَاكَ ، سُورَةٌ تَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ ، وَسُورَةٌ تَعِظُكَ ، هَذَا كِتَابُكَ فِي َهذِهِ الدُّنْياَ ، فَلَازِمْ هَذَا الِكتَابَ الكَرِيمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، تَدَبَّرْ آيَاتِهِ ، وَاعْتَصِمْ بِحَبْلِ اللهِ ، وَاتَّبِعْ سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
صلوا وسلموا عليهِ ، صلوا على البشيرِ النذيرِ والسراجِ المنيرِ نبيكُم محمدٍ المصطفى ورسولِكُم المجتبى، فقد أمرَكم بذلكَ ربُّكُم جلَّ وعلا فقالَ في محكمِ كتابِه قولاً كريماً: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )
المفضلات