الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا الْعَظِيمَةِ فِي بِلاَدِنَا الْمُبَارَكَةِ:
نِعْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ مِلْكُهَا لِلدَّوْلَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ مِنْ مِثْلِ الْوِزَارَاتِ وَالْجَامِعَاتِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْمَصَانِعِ وَالْحَدَائِقِ وَالطُّرُقِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُنْشَآتِ الَّتِي هِيَ تَبَعُ الدَّوْلَةِ، وَمَنْفَعَتُهَا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ عَلَى السَّوَاءِ؛ تُدِرُّ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ الْعَمِيمِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَهَذِهِ بِذَاتِهَا وَاللهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنَّةٌ كَرِيمَةٌ لاَ تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ؛ نَشْكُرُ اللهَ الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نُثَنِّي بِالشُّكْرِ لِدَوْلَتِنَا الْمُبَارَكَةِ عَلَى عِنَايَتِهَا بِهَذَا الأَمْرِ، وَالَّتِي أَصْبَحَتْ مَضْرِبَ الْمَثَلِ بَيْنَ الدُّوَلِ فِي هَذَا الْبَابِ - نَسْأَلُ اللهَ لَهُمُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى إِصْلاَحِ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ شُكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ أَنْ تُذْكَرَ فَتُشْكَرَ وَلاَ تُكْفَرَ، وَأَنْ نَتَّصِفَ جَمِيعًا بِخُلُقِ الأَمَانَةِ الَّتِي أَبَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالْجِبَالُ أَنْ يَحْمِلْنَهَا؛ خَوْفًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي أَدَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]
وَمِنَ الأَمَانَةِ : الْعَمَلُ بِالْحَلاَلِ وَالْبُعْدُ عَنِ الْحَرَامِ فِي بَابِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُۚ﴾
[الطلاق: 2 – 3].
وَمِنَ الأَمَانَةِ: الْبُعْدُ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْمَالِ الْعَامِّ، وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِ بِالتَّبْدِيدِ أَوِ التَّفْرِيطِ، أَوْ بِاسْتِغْلاَلِ الْعَمَلِ فِي غَيْرِ مَا خُصِّصَ لَهُ، فَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» [رواه البخاري] وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَ الْعُمَّالِ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَالِ الْعَامِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَتُوبُوا فَيَرُدُّوا الْمَظَالِمَ إِلَى أَهْلِهَا.
وَمِنَ الأَمَانَةِ: قِيَامُ الْعَامِلِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَعَنْ كُلِّ مَا هُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
[متفق عليه من حديث ابْنِ عُمَر - رضي الله عنهما -].
وَمِنَ الأَمَانَةِ: التَّحَلِّي بِخُلُقِ النَّزَاهَةِ، وَالاِتِّصَافُ بِخُلُقِ الْمُرُوءَةِ، وَالاِبْتِعَادُ عَنْ مَظَانِّ السُّوءِ، وَتَجَنُّبُ الشُّبُهَاتِ، وَالتَّعَفُّفُ عَنْ كُلِّ مَالٍ يُظَنُّ فِيهِ شُبْهَةٌ مِنْ حَرَامٍ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْحَلاَلِ ؛ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ» [متفق عليه].
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ» [ رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني].
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الْحَلاَلَ، وَجَنِّبْنَا الْحَرَامَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ مِمَّا يُنَاقِضُ وَاجِبَ الأَمَانَةِ فِي حَيَاةِ الْمُجْتَمَعِ وُجُودَ الْفَسَادِ بِصُوَرِهِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالَّتِي حَذَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ مِنْهَا فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، فَالْفَسَادُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْمَخَاطِرِ، وَمِنْ ذَلِكَ: تَضِييعُ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَزَعْزَعَةُ الْقِيَمِ الأَخْلاَقِيَّةِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، وَسَبَبٌ أَيْضًا فِي تَدَنِّي مُسْتَوَى الْخِدْمَاتِ الْعَامَّةِ، وَضَعْفِ الإِنْتَاجِيَّةِ، وَكَثْرَةِ الْبَغْيِ، وَجَعْلِ الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ مِمَّا يُضْعِفُ الْوَلاَءَ، وَيُعَزِّزُ الْعَصَبِيَّةَ الْمَذْمُومَةَ، وَيُهَدِّدُ التَّرَابُطَ الأَخْلاقِيَّ وَالْقِيَمَ الْمُجْتَمَعِيَّةَ النَّبِيلَةَ، وَيُعِيقُ خُطَطَ التَّنْمِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَيُبَعْثِرُ الثَّرَوَاتِ.
وَالْفَسَادُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ سُلُوكٌ مُنْحَرِفٌ مُتَسَتِّرٌ يَدْخُلُ فِي كُلِّ مَجَالٍ مِنْ مَجَالاَتِ الْحَيَاةِ، قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ مِنْهُ، فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ». وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ» انتهى.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَكُونُوا عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ فِي مُحَارَبَةِ الْفَسَادِ وَمُكَافَحَتِهِ وَالتَّعَاوُنِ مِنْ أَجْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَتَقْيِيدِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّعَاوُنُ مَعَ دَوْلَتِنَا الْمُبَارَكَةِ فِي الإِبْلاَغِ عَنْ جَرَائِمِ الْفَسَادِ وَمُرْتَكِبِيهَا، حَتَّى يَسْلَمَ الْمُجْتَمَعُ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ وَالأَمْرِ الْخَطِيرِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
هَذَا؛ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].