الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ وَلِيِّ مَنِ اتَّقَاهُ، مَنِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ لَاذَ بِهِ وَقَاهُ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ومُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَتِهِ وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَتَقْوَى اللهِ خَيْرُ زَادٍ، وَأَعْظَمُ وَصِيَّةٍ لِلْعِبَادِ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بَينَ سَلمَانَ وأبي الدَّرْداءِ – رضي الله عنهما - فَزَارَ سَلمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَالَ لهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قالتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فجَاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فقَالَ: كُلْ، قالَ: فَإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ما أَنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ، فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِرِ اللَّيْلِ، قالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: «إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ». فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «صَدَقَ سَلْمَانُ».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: جَاءَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَجَعَلَتْ لَهَا حُقُوقًا وَوَاجِبَاتٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ لِيَعِيشَ الْمُسْلِمُ مَا كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِنْ عُمْرٍ، آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ.
فَمِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ: التَّوَازُنُ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَالْحِرْصُ عَلَى الْوَسَطِيَّةِ وَالاِعْتِدَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [ البقرة : 143 ] وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَسَطِيَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، وَكَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قال أَحَدُهُمْ: أَمَّا أنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وقال آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفْطِرُ. وقال آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وَمِنْ حُقُوقِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ: حِفْظُهَا مِنَ الْهَلاَكِ بِانْتِحَارٍ أَوْ بِأَيِّ سَبَبٍ يُؤَدِّي بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» [متفق عليه].
وَمِنْ حُقُوقِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ: اتِّخَاذُ الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ صِيَانَةً لَهَا، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا؛ عَمَلاً بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وَمِنْ ذَلِكَ: الاِهْتِمَامُ بِالصِّحَّةِ الْعَامَّةِ وَالتِّغْذِيَةِ السَّلِيمَةِ، وَتعْزِيزُ مَفَاهِيمِ حِمَايَةِ النَّفْسِ ، وَالسَّلاَمَةِ الْغِذَائِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ مَهَارَاتِ الإِسْعَافَاتِ الأَوَّلِيَّةِ مِنْ مَصَادِرِهَا الْمَوْثُوقَةِ لإِنْقَاذِ النَّفْسِ، أَوْ إِنْقَاذِ حَيَاةِ أَحَدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ أَوْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ، وَالنَّوْبَاتِ الْقَلْبِيَّةِ الْمُفَاجِئَةِ، وَالاِخْتِنَاقِ وَالنَّزِيفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
قَالَ مُجَاهِدٌ : (وَمَنْ أَحْيَاهَا) أَيْ: أَنْجَاهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرَقٍ أَوْ هَلَكَةٍ.
وَتَأَمَّلُوا –عِبَادَ اللهِ– الأَجْرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى إِحْيَاءِ الإِنْسَانِ الْحَيَاةَ الْبَدَنِيَّةَ، فَكَيْفَ سَيَكُونُ جَزَاءُ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا حَيَاةً إِيمَانِيَّةً مُرْتَبِطَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْهَجِ سَلَفِ الْأُمَّةِ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْنَا وَأَصْلِحْ بِنَا، وَاهْدِنَا وَحَبِّبِ الْهُدَى لَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْرِصُوا عَلَى سَلاَمَةِ أَنْفُسِكُمْ بِصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَفِعْلِ الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي فِيهَا سَلاَمَتُكُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ: الدُّعَاءُ، وَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ؛ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: «بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ » [ صححه الألباني].
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ».
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»[ رواه مسلم ].
المفضلات