الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: حِفْظُ العَهدِ وَالْوَفَاءُ بِه مِن شَمائِلِ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ علَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ حَدَثَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ نَصْرَانِيّاً مِنَ الْأَقْبَاطِ وَقَدْ أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ إِبَّانَ صُلحِ الحُديبِيَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلَّى اللهُ علَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي شْيءٍ لَهُمْ ، وَكَانَ يَوْمَهَا كَمَا ذَكَرْنَا نَصْرانيًّا .
يَقُولُ : فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلَّى اللهُ علَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، أَيْ : وَقَعَ فِيِهِ، ودَخَلَ الْإِيِمَانُ قَلْبَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي وَاللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا؛ إِشَارَةً إِلَى تَمَكُّنِ الْإِسْلَامِ مِنْ قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلَّى اللهُ علَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: « إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ » أي: لا أَنقُضُ العَهدَ وَلَا أُفسِدُهُ ، وَفِيهِ إشارةٌ إِلَى أنَّ الْكَافِرَ مُحرَّمٌ دمُهُ وَمَالُهُ مَا دَامَ فِي عَقْدِ أَمَانٍ، « وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ » أَيْ: الرُّسُلَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرُّسلِ بِمَكْروهٍ؛ لِأنَّ قَصْدَ الرِّسَالةِ أمَّنَهُ ، فَمَجِيئُهُ وَرُجُوعُهُ ضِمْنَ عَقْدِ الْأَمَانِ، فَصَارَ فِي حُكْمِ الْـمُسْتَجِيرِ ، وَأمَانُ الرُّسُلِ مِنَ الْـمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ : « وَلَكِنِ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الآنَ فَارْجِعْ» أَيْ: ارْجِعْ فَأَنْهِ مُهمَّةَ رِسَالَتِكَ أوَّلًا؛ لِأنَّ قَبُولَكَ فِي الْإِسْلَامِ الْآنَ نَقْضٌ لِلْعَهدِ، قَالَ: فذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – فَأَسْلَمْتُ ؛ - اللهُ أَكْبَرُ - أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَصْبَحَ مَوْلًى مِنْ مَوالِي رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – وَالْقِصَّةُ رَوَاهَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ ،وَصَحَّحَهَا الْأَلْبَانِيُّ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِهِ وَعَدْلِهِ ، يَتَعامَلُ الْإِسْلَامُ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِن الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْتِزَامٌ وَعَهْدٌ ، وَكَذَلِكَ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ الَّذِينَ تَمَّ إعْطَاؤُهُمْ الْأَمَانُ لِلدُّخُولِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِلتِّجَارَةِ مَثَلًا أَوْ مَا يَرَاهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِهَذَا الْخُصُوصِ بِالْوَفَاء بِالْعَهْدِ وَالْعَقْدِ ، وَعَدَمِ الظُّلْمِ بِأَيّ شَكْلٍ مِنْ الْأَشْكَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أَوِ انْتَقَصَهُ ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » أَيْ : خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِم ، بَلْ وَلَا يَجُوزُ تَرْوِيعُهُم وَإِخَافَتُهُم ، وَيُعَامَلُون بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ المائدة : 8 ]
فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ دِنَنَا ، إلَّا أَنَّ دِيِنَنَا يُوجِبَ عَلَيْنَا الْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْنَا لَهُم ؛ وَمَنْ أَدْخَلَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمُسْلِمِ بِعَقْدِ أَمَانٍ وَعَهْدٍ فَإِنَّ نَفْسَهُ وَمَالَهُ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُ ؛ وَلِهَذا قَالَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: « مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»
[ رواه البخاري من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما]
وَمِمَّا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاء بَيْنَنَا ، أَنْ نُحْسِنَ إلَيْهِمْ ، بِإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ ، والتَّصَدُّقِ عَلَى فَقِيرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ ، وَوَصْلِ مَنْ قَطَعَ مِنْهُم ، وَإِحْسَانِ الْجِوَار لَهُمْ ، وَالطَّمَعِ فِي دَعْوَتِهِمْ ؛ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - : كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَمَرِضَ، فأتَاهُ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقالَ له: « أسْلِمْ » فَنَظَرَ إلى أبِيهِ وهو عِنْدَهُ فَقالَ له: أطِعْ أبَا القَاسِمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأسْلَمَ، فَخَرَجَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ: « الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ » [ رواه البخاري ]
قَالَ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ ابْنِ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ - : الصَّدَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ إذَا كَانُوا لَيْسُوا حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [ الممتحنة : 8 ]
اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِالْهُدَى ، وَجَمَّلْنَا بِالتَّقْوَى ، وَاغْفِرْ لَنَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ، يَا رَبَّ الْعَالَمِيِنَ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوُا إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمِنَنِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُوَفَّقَ لِهَذا الدِينِ العَظِيمِ ، وَمِنْ حَقِّ شَخْصٍ يَدِينُ بِهَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ أَنْ يُفَاخِرَ بِهِ عَلَى غَيْرِه مِنَ الْأَدْيَانِ ؛ فَهَذَا دِينُنَا وَهَذَا تَعَامُلَهُ ، وَالَّذِي لَوْ نَظَرَ أَعْداءُ الإِسْلاَمِ لَهُ نَظَرَةَ تَقْدِيرٍ وَإِنْصَافٍ إلَى عَدْلِهِ ، لَمَا تَرَدَّدُوا أَنْ يَسْتَجِيرُوا بِهِ ، وَيَلْتَجِئُوا إِلَيْهِ ، وَيَلُوذُوا بِحَمَاهِ ؛ بَلْ لَا نَكُونُ مُبَالِغِينَ إِذَا قُلْنَا : أَنَّهُمْ لَوْ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ ، أَو أَنْصَفُوا أَنْفُسَهُمْ ، لَمَا تَرَدَّدُوا سَاعَةً فِي أَنْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِهِ ، وَيَسْتَقِيمُوا عَلَى طَرِيقَتِهِ ، وَأَنْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ مِنْ قَبْلِ : ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53].
ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَعُدْ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالذِّمَمِ فِيهِ مُـجَرَّدَ نَافِلَةٍ فَاضِلَةٍ ، أَوْ فَضِيلَةٍ مُكَمِّلَةٍ ، وَإِنَّمَا عَدَّهَا عُقُودًا مَفْرُوضَةً يَجِبُ احْتِرَامُهَا ، وَالْوَفَاءُ بِهَا ، إخْلَاصًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعَمَلًا بِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ –
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى -عِبَادَ اللهِ- واعْتَزُّوا بِدِينِكُمُ الإِسْلاَمِ، فَإِنَّ اللهَ أَعَزَّكُمْ بِهِ، فَإِنِ ابْتَغَيْتُمُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ أَذَلَّكُمُ اللهُ ؛هَذَا وَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].
المفضلات