ميثاق العلاقات / محمد بن سليمان المهوس
جامع الحمادي بالدمام ، في 23/ 12 / 1443 هـ
________________________
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : ‏كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَسْعَى لِتَحْقِيق أَعْظَمِ مِيثَاقٍ فِي العَلاَقَاتِ مَعَ رَبِّهِ وَنَفْسِه وَالْخَلْقِ ؛ وَهَذَا الْمِيِثَاقُ يَخْتَصِرُهُ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ هُوَ أَصْلُ عَظِيمٌ جَامِعٌ فِي بَابِ الْوَصَايَا وَالْإِرْشَاد ؛ وَقَدْ أَوْصَى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ وَصَايَا جَمَعَتْ مِيثَاقَ العِلاَقَاتِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ؛ فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - ‏رضي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : ‏قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ " ‏
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا " هَذَا مِيثَاقٌ بَيْنَك وَبَيْنَ رَبِّك أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ بِفِعْلِ أَوَامِرِه إخْلَاصًا لَهُ سُبْحَانَهُ ، وَاتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَا نَهَاكَ اللَّهُ عَنْهُ امْتِثَالًا لِنَهْي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَتَنَزّهاً عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلنَِ ، وَأَنْ لَا يَرَاك َ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ ، وَأَنْ لَا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ ، وَاسْتَحِ فِي قُرْبِهِ مِنْكَ وَقُدْرَتِه عَلَيْك .
وَهَذَا ‏الميثاق قَدْ أَوْصَى اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بِهِ فَقَالَ : "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ "
إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل
خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ
وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَلُ ساعَةً
وَلا أَنَّ ما يَخْفَى عَلَيكَ يَغيبُ
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : "وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا " هَذَا مِيثَاقُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ ؛ وَأَنَّهُ فِي كُلِّ تَفْرِيطٍ فِي طَاعَةٍ أَوِ اِنْتِهَاكٍ لِحُرْمَةٍ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ جَاهِدًا لِمَحْوِهَا وَتَعْوِيضِهَا بِمَا يُرْضِي الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَائِلُ : (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)
وَقَالَ تَعَالَى : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
‏وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ " ‏مِيثَاقٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْخَلْقِ ؛ قَالَ تَعَالَى: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ: " مَا مِنْ شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ "رواه الترمذي ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ : "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ "رواه أبو داود ، وصححه الألباني.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ : " إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا " [صححه الألباني في " صحيح الترمذي "]
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ فَقَالَ : " تَقْوى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُق "[رواه الترمذي]
فَأَخْلَاَقُ الْمُؤْمِنِ اِسْتِقَامَةٌ فِي دِينٍ ؛ وَبَشَاشَةٌ فِي لِينٍ ؛ وَعَفْوٌ مَعَ إحْسَانٍ ؛ وَكَرَمٌ فِي الْعَطَاءِ ؛ وَقَنَاعَةٌ فِي الْفَاقَةِ ؛ وَتَفْرِيجُ كُرْبَةٍ ؛ وَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ ؛ وَإفْشَاءُ السَّلَاَمِ ؛ وَبِرٌّ بِالْوَالِدِينَ وَإحْسَانٌ لِلْجَارٍ، قَالَ اِبْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ الْأَخْلَاَقُ بَسْطُ الْوَجْهِ ؛ وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ ؛ وَكَفُّ الْأَذَى)
قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ : بَذْلُ الْمَعْرُوفِ , وَكَفُّ الْأَذَى ، وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : هُوَ مُخَالَطَةُ النَّاسِ بِالْجَمِيلِ وَالْبِشْرِ ، وَالتَّوَدُّدِ لَهُمْ ، وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ , وَاحْتِمَالِهمْ ، وَالْحِلْمِ عَنْهُمْ ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَكَارِهِ ، وَتَرْكِ الْكِبْرِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ . وَمُجَانَبَةِ الْغِلَظِ وَالْغَضَبِ ، وَالْمُؤَاخَذَةِ " انتهى
اللَّهُمَّ اِجْعَلْنَا مِمَّنِ إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ ، وَإِذَا اُبْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ،‏ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينَ يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ أَنْ يُوَفَّقَ الْعَبْدُ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَوَاثِيقِ الثَّلَاثَةِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ حُسْنِ الْعِلَاَقَةِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَحُسْنِ الْعِلَاَقَةِ مَعَ الْخَلْقِ ؛ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ؛ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
هَذَا ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم]