هَمُّ قَبُولِ الْـعَمل / محمد بن سليمان المهوس
جامع الحمادي بالدمام ، في 17/ 12 / 1443 هـ
________________________
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنْ أَجَلِ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ : نِعَمَةُ التَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ اللهَ يَمُدُّ بِعُمُرِ الْعَبْدِ لِيُدْرِكَهَا ؛ وَمَعَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ فَإِنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِنِعْمَةٍ أُخْرَى أعْظَمُ مِنْهَا، أَلَا وَهِي نِعْمَةُ قَبُولِ هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ هُمَا:
إِخْلَاصٌ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ تَعَالَى:﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]
وَاِتِّبَاعُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – فِي هَذَا الْعَمَلِ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَديثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – قَالَ:« مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »
وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْأَنْبِيَاءَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ مِنْ بَعْدِهِمْ يَهْتَمُّونَ بِصَلَاَحِ الْعَمَلِ، ثُمَّ يَهْتَمُّونَ بِقَبُولِهِ اِهْتِمَامًا خَاصًّا ! لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا قِيمَةَ لَهُ إِذَا لَمْ يُقْبَلْ.
فَهَذَا إِبْرَاهِيِمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامَ يَبْنِي الْكَعْبَةَ مَعَ اِبْنِهِ إِسْمَاعِيِلَ وَيَقُولَانِ:﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة:127] وَهَذِهِ أُمُّ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ كَانَتِ اِمْرَأَةٌ لَا تَحْمِلُ، فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يُطْعِمُ فَرْخَهُ، فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ، فَدَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهِبَهَا وَلَدًا، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا، فَوَاقَعَهَا زَوْجُهَا، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا تَحَقَّقَتِ الْحَمْلَ نَذَرَتْهُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّرًا أَيْ: خَالِصًا مُفَرَّغًا لِلْعِبَادَةِ، وَلِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ دَعَتْ رَبَّهَا قَبُولَ هَذَا الْعَمَلِ ؛ فَقَالَتْ : ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
[ آل عمران : ٣٥] وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – : « رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي » [ رواه ابن ماجه وصححه الألباني ]
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَديثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ : «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: « لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ » [صححه الألباني ]
وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – مَعَ اِجْتِهَادِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَخْشَوْنَ أَنْ تُحْبَطَ أَعْمَالُهُمْ، وَأَلاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ لِرُسُوخِ عِلْمِهِمْ وَعَمِيقِ إيمَانِهِمْ ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ – رَحِمَهُ اللهُ - : « أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ »[رواه البخاري]، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- : «لَأَنْ أَسْتَيْقِنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ مِنِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }» [رواه ابن أبي حاتم وحسنه].
وَقَالَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- : «لَحَرْفٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أُعْطَاهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا ؛ فَقِيلَ لَهُ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: أَنْ يَجْعَلَنِي اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ».
قَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:« كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اِهْتِمَامًا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاِغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ عَلَاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ أَنْ يُتْبِعَ الْعَبْدُ الْحَسَنَةَ بِحَسَنَةٍ مِثْلَهَا ؛ وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: « عَليْكُم بِالصِّدقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»
وَمِنْ عَلَاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ : اِسْتِشْعَارُ الْمُؤْمِنُ تَقْصِيرَهُ فِي عَمَلِهِ ، وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَتَوْفِيقَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ، وَأَنَّهُ لَوَلَا رَبَّهُ لَمَا حَصَلَ، قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [ النور :21 ]
وَمِنْ عَلَاَمَاتِ قَبُولِ الْعَمَلِ : إِحْسَاسُ الْعَبْدُ بِلَذَّةِ الْعِبَادَةِ فَتَكُونُ أُنْسَهُ وَرَاحَتَهُ ؛ قَالَ بَعْضُ أهْلِ الْعِلْمِ: خِفَّةُ الطَّاعَةِ مِنْ آثَارِ مَحَبَّةِ الْمُطَاعِ وَإجْلَالِهِ، فَإِنَّ قُرَّةَ عَيْنِ الْمُحِبِّ فِي طَاعَةِ الْمَحْبُوبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – كَمَا عِنْدَ النَّسَائِيِّ بِسَنَدِ صَحِيحٍ : « وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ » لَمَا فِيهَا مِنَ الْمُؤَانَسَةِ، وَلَذَّةِ الْقُرْبِ ، وَأُنْسِ الْمُنَاجَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ فَاتُّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ؛ هَذَا ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم]