الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَعَيِشُ الأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ أَيَّامًا جَلِيلَةً فَاضِلَةً، هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ، لَهَا مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، تَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهَا وَتَعْظِيمِهِ لَهَا؛ أَيَّامَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، عَشْرٍ مُبَارَكَاتٍ كَثِيرَةِ الْحَسَنَاتِ، عَالِيَةِ الدَّرَجَاتِ، مُتَنَوِّعَةِ الطَّاعَاتِ.
فَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَا فَقَالَ: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾ [ الفجر : 1-2] وَلاَ يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى إِلاَّ بِعَظِيمٍ، وَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لِخَلْقِهِ أَنْ يُقْسِمُوا إِلاَّ بِهِ.
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَكْمَلَ فِيهَا الدِّينَ؛ إِذْ تَجْتَمِعُ فِيهَا الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، وَبِكَمَالِ الدِّينِ يَكْمُلُ أَهْلُهُ، وَيَكْمُلُ عَمَلُهُ، وَيَكْمُلُ أَجْرُهُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ ‏عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-‏: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قال: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾ قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا عَلَى الإِطْلاَقِ، دَقَائِقُهَا وَسَاعَاتُهَا وَأَيَّامُهَا، فَهِيَ أَحَبُّ الأَيَّامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَهِيَ مَوْسِمٌ لِلرِّبْحِ، وَهِيَ طَرِيقٌ لِلنَّجَاةِ، وَهِيَ مَيْدَانُ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ» يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» [ رواه البخاري ]
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ يَوْمٌ مَعْرُوفٌ بِالْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الأَجْرِ وَغُفْرَانِ الذَّنْبِ ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «‏‏مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الأَعْظَمِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» [ رواه الترمذي ، وصححه الألباني ] وَيَوْمُ عَرَفَةَ يُسْتَحَبُّ صِيَامُهُ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: وَسُئِلَ -أَيْ: رَسُولُ اللهِ ‏- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ».
وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّ فِيهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الأَيَّامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَفْضَلُ الأَيَّامِ يَوْمُ النَّحْرِ».
وَمِنَ الأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ: لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ‏- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ»، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَصِفَتُهُ: (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآياتِ وَالْحِكْمَةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى عِبَادَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُعْمَلُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ حَجَّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَقَدْ قَالَ ‏- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ» [ متفق عليه ].
وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الْحَجُّ الْمُوَافِقُ لِهَدْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ إِثْمٌ مِنْ رِيَاءٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ رَفَثٍ أَوْ فُسُوقٍ.
وَمِنَ الأَعْمَالِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ: الأُضْحِيَةُ، وَهِيَ سُنَّةٌ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ‏- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا» [ رواه مسلم ].
فَجَعَلَ الأُضْحِيَةَ مَرْدُودَةً إِلَى إِرَادَةِ الْمُسْلِمِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ وَاجِبًا؛ لَكِنْ تَتَأَكَّدُ الأُضْحِيَةُ عَلَى مَنْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ حَيْثُ يُوجِبُهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاسْتَغِلُّوا أَوْقَاتَكُمْ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ ، فَالْوَقْتُ هُوَ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا، وَمَا مَضَى مِنْهُ لاَ يَعُودُ وَلاَ يُعَوَّضُ، لِذلِكَ حَثَّنَا دِينُنَا الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الاسْتِفَادَةِ مِنْهُ وَاسْتِثْمَارِهِ فِيمَا يَنْفًعُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ ‏- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -:«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» [ رواه الحاكم ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ، وصححه الألباني ]
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].