الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْحَجُّ مَدْرَسَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، وَرِحْلَةٌ رُوحِيَّةٌ، تَتَجَسَّدُ فِيهِ مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ مِنْ خِلاَلِ مَشَاعِرِ الْحَجِّ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالَّتِي ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي مَضَتْ بَعْضًا مِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ اللهَ هَيَّأَ مَكَانَ الْبَيْتِ لإِبْرَاهِيمَ، وَكُلِّ مَنْ تَبِعَ مِلَّةَ الإِسْلاَمِ الَّتِي نَادَى بِهَا، وَنَادَى بِهَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كَمَا نَادَى بِهَا جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ، وَأَمَرَ خَلِيلَهُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِتَطْهِيرِ مَكَانِ الْبَيْتِ مِنْ كُلِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ، وَتَهْيِئَتِهِ لأَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ مِنَ الطَّائِعِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]، وَذَكَرْنَا -مِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ بِالْحَجِّ-: التَّلْبِيَةَ وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ طَاعَةً للهِ وَإِجْلاَلاً، وَتَعْظِيمًا لِشَعَائِرِهِ وَإِخْلاَصًا.
وَفِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ نُكْمِلُ الْكَلاَمَ عَنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ فَنَقُولُ: مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ: إِتْمَامُ الْحَجِّ وَإِكْمَالُهُ للهِ خَالِصًا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، وَقَالَ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: 97]، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْمَنَاسِكِ، وَفَرَضَ الْحَجَّ عَلَى النَّاسِ جَعَلَ الأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ سُبْحَانَهُ ، فَفِي الآيَةِ الأُولَى: إِتْمَامُ الْمَنَاسِكِ للهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ : أَدَاءُ الْفَرْضِ للهِ، وَفِي هَذَا الأَمْرِ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِهَذَا الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ حَيْثُ يَتَذَكَّرُ الْعَبْدُ مَوْقِفَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ حِينَمَا نَفِدَ مَاؤُهَا وَغِذَاؤُهَا فِي جَوْفٍ لاَهِبٍ، فَصَارَتْ تُهَرْوِلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ أَنْهَكَهَا الْعَطَشُ وَأَضْعَفَهَا الْجُوعُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِاللهِ، فَتَوَكَّلَتْ عَلَيْهِ وَفَوَّضَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا إِبْرَاهِيمَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: يَا إبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنِيسٌ وَلاَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَالَتْ لَهُ: آللهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إذاً لاَ يُضَيِّعُنَا؛ ثُمَّ رَجَعَتْ ؛ وَإِذَا بِرَحْمَةِ اللهِ تَتَدَارَكُهَا؛ فَإِذَا هِيَ باِلْـمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بعَقِبِهِ -أَوْ بجَنَاحِهِ- حتَّى ظَهَرَ الْـمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقُولُ بيَدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْـمَاءِ في سِقَائِهَا وهو يَفُورُ بَعْدَ ما تَغْرِفُ ؛ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - : يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا؛ قالَ: فَشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولَدَهَا، فَقالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلَامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ. [وَالْقِصَّةُ فِي الْبُخَارِيِّ] - اللهُ أَكْبَرُ- فِي هَذَا الْمَوْقِفِ يَتَذَكَّرُ الْمُسْلِمُ تَذَلُّلَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَتَضَرُّعَهَا للهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ بِذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ الْمَلْجَأَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ فِي ضَرَّاءِ الْعَبْدِ وَسَرَّائِهِ، وَفِي شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، فَهُوَ كَاشِفُ الْكَرْبِ وَمُجِيبُ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أإله مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62].
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ: الْوُقُوفُ فِي عَرَفَةَ؛ فَهُوَ اسْتِجَابَةٌ وَإِذْعَانٌ، وَامْتِثَالٌ وَاقْتِفَاءٌ لِهَدْيِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ الْعَدْنَانِ الَّذِي وَقَفَ بِهَذَا الْمَكَانِ وَقَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» [رواه النسائي وصححه الألباني] وَبَيَّنَ أَنَّ خَيْرَ الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْموْقِفِ الْعَظِيمِ الدُّعَاءُ الْمُتَضَمِّنُ لِتَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَمَا سِوَاهُ؛ حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ من قَبْلِي لاَ إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني في «صحيح الترغيب»].
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا ثَبَاتًا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ، وَجَنِّبْنَا الشِّرْكَ وَالْبِدَعَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ:
التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِذَبْحِ الْهَدْيِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ فَالذَّبْحُ للهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163]، وَالذَّبْحُ عَلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [ الحج : 33 – 34 ] فَلاَ يَذْبَحُ الْمُسْلِمُ تَقَرُّبًا أَوْ تَعَبُّدًا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ، وَاسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللهِ تَعَالَى وَعِقَابَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الْقَائِلِ: «لَعَنَ اللَّهُ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» [رواه مسلم]، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَأَخْلِصُوا عِبَادَاتِكُمْ للهِ تَعَالَى، وَاحْذَرُوا الشِّرْكَ بِأَنْوَاعِهِ فِيهَا؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ مُحْبِطُ الْعَمَلِ كَثِيرِهِ وَقَلِيلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم]