الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الإِنْفَاقِ، أَوْ لِلأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ انتهى.
وَهَذِهِ الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ – عِبَادَ اللهِ - تَنْعَكِسُ عَلَى بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ لِتَبْقَى شَمْعَةً وَضَّاءَةً تُخْفِي خَلْفَهَا مَشَاكِلَ وَهُمُومَ الْحَيَاةِ الأُسَرِيَّةِ؛ مَعَ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ لاَ يُوجَدُ بَيْتٌ إِلاَّ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَاكِلِ؛ إِلاَّ أَنَّ أُسْلُوبَ الْحِوَارِ الصَّحِيحِ كَفِيلٌ فِي عِلاَجِهَا بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى! فَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ أَنْ نَطْرُقَ آدَابَ الْحِوَارِ الْأُسَرِيِّ الصَّحِيحِ، وَالَّتِي مِنْهَا:
حُسْنُ الْمَقْصَدِ، وَالإِخْلاَصُ فِي الْحِوَارِ: فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحِوَارِ الاِنْتِصَارَ لِلنَّفْسِ، وَلاَ مَسْلَكَ الْعُنْفِ الأُسَرِيِّ!
وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ، وَالْحُصُولُ عَلَى رِضَا رَبِّ الْخَلْقِ، وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ الرَّبِّ جَلَّ فِي عُلاَهُ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11].
وَمِنْ آدَابِ الْحِوَارِ: التَّوَاضُعُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَاحْتِرَامُ الطَّرَفِ الآخَرِ، وَتَجَنُّبُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ ، وَالْكِبْرِيَاءِ بِالْكَلاَمِ أَوِ الإِشَارَةِ، وَالْبُعْدُ مِنِ ازْدِرَاءِ مَا عِنْدَ الآخَرِينَ مِنْ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» [أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه].
فَمِنَ التَّوَاضُعِ: أَنْ تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ جَاءَ بِهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ أَصْغَرِ الأَوْلاَدِ، بَلْ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنْ أَعْدَى أَعْدَائِكَ.
وَلَيْسَ النَّجَاحُ فِي الْحِوَارِ أَنْ تَكُونَ قَوِيًّا شَدِيدَ الصُّرَعَةِ عَلَى أُسْرَتِكَ؛ بَلْ رُبَّمَا يَرْتَدُّ الأَمْرُ عَلَيْكَ، وَيَكُونُ هَذَا دَلِيلاً عَلَى سُوءِ تَصَرُّفِكَ وَعَجْزِكَ، وَنُفُورِ أَفْرَادِ أُسْرَتِكَ، وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَيْكَ؛ أَوِ الذَّهَابِ لِغَيْرِكَ لِيَبُثُّوا لَهُ الشَّكْوَى، وَيَنْتَظِرُوا مِنْهُ الْحُلُولَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا سَبَبًا فِي انْحِرَافِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ»
[رواه الترمذي، وصححه الألباني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه].
وَمِنْ آدَابِ الْحِوَارِ: التَّلَطُّفُ وَالشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ بِمَنْ تُحَاوِرُهُ مِنْ أَفْرَادِ أُسْرَتِكَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ» - وذَكَرَ مِنْهُمْ: «رَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ » [رواه مسلم]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ؛ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وَمِنْ آدَابِ الْحِوَارِ: الإِصْغَاءُ وَحُسْنُ الاِسْتِمَاعِ:
الإِصْغَاءُ إِلَى الآخَرِينَ مِنْ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ فَنٌّ قَلَّ مَنْ يُجِيدُهُ، فَأَكْثَرُنَا يُجِيدُ الْحَدِيثَ أَكْثَرَ مِنَ الاِسْتِمَاعِ؛ فَلاَ بُدَّ أَنْ تَسْتَمِعَ وَتَسْتَوْعِبَ جَيِّدًا مَا يَقُولُهُ الآخَرُونَ؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَمِعْ لِلزَّوْجَةِ وَالأَوْلاَدِ؛ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا سَمِعُوا مِنْ غَيْرِكَ عَبْرَ الْوَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ!
وَمِنْ آدَابِ الْحِوَارِ: الْعَدْلُ وَالإِنْصَافُ: فَأَوْلَى النَّاسِ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ هُمْ زَوْجَتُكَ وَأَوْلاَدُكَ، فَخَيْرُ النَّاسِ خَيْرُهُمْ لأَهْلِهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ؛ فَمِنَ الْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ أَنْ تَعْرِفَ لِلزَّوْجَةِ حُقُوقَهَا وَتُوَفِّيَهَا إِيَّاهَا، وَتَشْكُرَ خَيْرَهَا، وَتَتَغَاضَى عَنْ عُيُوبِهَا عِرْفَانًا بِجَمِيلِ صَنِيعِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: «لاَ يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» [رواه مسلم].
وَالْعَدْلُ وَالإِنْصَافُ كَذَلِكَ بَيْنَ الأَوْلادِ لَيْسَ عَدْلاً فِي الأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالرِّعَايَةِ حَتَّى بِالاِبْتِسَامَةِ.
وَمِنْ آدَابِ الْحِوَارِ: إِجَادَةُ فَنِّ الأَوْلَوِيَّاتِ؛ فَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ التَّرْكِيزُ فِي الْحِوَارِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا وَإِغْفَالُ جَانِبِ الدِّينِ، أَوِ الْعَمَلُ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ وَالتَّفَرُّغِ لِلدِّينِ فَقَطْ! بَلِ الْعَمَلُ بِهَذَا وَهَذَا، وَالْحِرْصُ عَلَى الأَهَمِّ قَبْلَ الْمُهِمِّ لاَ سِيَّمَا وَالتَّيَّارُ الْجَارِفُ، وَالْخَطَرُ الْمُوَجَّهُ عَلَى عَقَائِدِ أَبْنَائِنَا ، وَقِيَمِهِمُ الْفَاضِلَةِ، وَأَخْلاَقِهِمُ الْعَالِيَةِ كَثِيرٌ – نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ .
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَصَرِّفْهَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَأَصْلِحْ لَنـَا دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأُسْرَةَ مَسْئُولِيَّةٌ وَرِعَايَةٌ، وَتَحَمُّلٌ وَأَمَانَةٌ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ الْخُلَّصَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَاتٍ فَاضِلَةٍ، وَأَخْلاَقٍ كَرِيمَةٍ عَالِيَةٍ، فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74].
سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ، وَطَلَبُوا مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ صَالِحِينَ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ – رَحِمَهُ اللهُ - : «لَيْسَ شَيْءٌ أَقَرُّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ مُطِيعِينَ للهِ».
وَهَذَا لاَ يَحْصُلُ إِلاَّ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ التَّوْجِيهِ السَّلِيمِ، وَالرِّعَايَةِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ الْحِوَارِ لِنَجْنِيَ أَطْيَبَ الثِّمَارِ؛ زَوْجَةً صَالِحَةً وَابْناءً بَرَرَةً بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى ؛ هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].