خطبة جمعة
بعنوان
( صوموا لرؤيته )
22/8/1443
كتبها
عبدالله فهد الواكد

الخُطْبَةُ الأُولَى

الحَمْدُ للهِ بَنَى السَّمَاءَ فَأَحْكَمَ مَا بَنَى، وَأَجْزَلَ العَطَاءَ لِمَنْ كَانَ مُحْسِنَا ، أَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُسِرًّا وَمُعْلِنًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ دَعَا إِلَى اللهِ فَمَا ضَعُفَ وَمَا وَنَى، صَلَّـى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ العِزِّ وَالسَّنَا، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ : فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ القَائِلِ ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )، فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمْ اللهُ ، فَالأَيَّامُ قَلَائِلُ ، وَالأَهْوَاءُ قَوَاتِلُ ، فَلْيَعْتَبِرْ الأَوَاخِرُ بِالأَوَائِلِ ، مَنْ كَانِ المَوْتُ طَالِبُهُ كَيْفَ يَلَذّ لَهُ قَرَارٌ؟ وَمَنْ كَاَنَ رَحِيلُهُ إِلَى الآخِرَةِ فَلَيْسَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِدَارٍ.
بَنُو آدَمَ فَرِاِئسُ الأَحْدَاثِ ، وَغَرَائِسُ الأَجْدَاثِ ، فَبَادِرُوا ـ رَحِمَكُمْ اللهُ ـ فَرَمَضَانُ عَلَى الأَبْوَابِ ، وَأَيَّامُكُمْ مِنْ سَرَابٍ إِلَى سَرَابٍ ، فَاسْتَعِدُّوا لِلْقُدُومِ إِلَى رَحْمَةِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ، أَكْثِرُوا فِيهِ النَّدَمَ عَلَى مَافَاتَ ، وَالعَمَلَ لِمَا هُوَ آتٍ ، وَالتَّرَحُّمَ عَلَى مَنْ مَاتَ ، مِنْ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ ، وَالمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ

مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ،لاَ يَزَالُ ( ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) [الرحمن:5]، هَذَانِ الكَوْكَبَانِ النَّيِّرَانِ ، يَجْرِيَانِ بِدِقَّةٍ بَالِغَةٍ، وَيَسِيرَانِ بِنِظَامٍ عَجِيبٍ ، وَقَدْ هَدَى اللهُ الإِنْسَانَ لِإِدْرَاكِ سَيْرِهِمَا ، فَعَرَفَ الأَفْلَاكَ فِي دَوَرَانِهَا ، وَالنُّجُومَ فِي مَنَازِلِهَا وَجَرَيَانِهَا ، وَتَقَلّبَ الأَيَّامِ فِي فُصُولِهَا ، فَتَبَارَكَ اللهُ (تَبَارَكَ ٱلَّذِى جَعَلَ فِى ٱلسَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً )
فَيَا عِبَادَ اللهِ : تَمْضِي الأَيَّامُ وَتَمْضِي مَعَهَا أَشْطَارُ العُمُرِ وَأَجْزَاؤُهُ ، وَلَقَدْ كَانَ لَدِينِنَا مِنْ حِسَابِ الزَّمَنِ مَوْقِفٌ وَاضِحٌ بِنَاؤُهُ , إِذْ رَبَطَ ذَلِكَ الحِسَابَ بِالهِلَالِ ، فَرَبَطَ بِهِ حِسَابَ الشُّهُورِ وَتَقْدِيرَ أَوْقَاتِهَا ، لِتَجْرِيَ عَلَيْهَا أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالتَّشْرِيعِ، ( هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقّ يُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]، لَقَدْ قَدَّرَ اللهُ بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ القَمَرَ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ ، وَجَعَلَ لَهُ أَحْوَالاً مِنْ الإِهْلَالِ وَالإِقْمَارِ وَالإِبْدَارِ وَالإٍسْرَارِ ، لِنَعْلَمَ عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابِ، فَجَاءَتْ كَثِيرٌ مِنْ الأَحْكَامِ وَالتَّشْرِيعَاتِ مُرْتَبِطَةً بِالأَوْقَاتِ وَبِالأَهِلَّةِ ، قَالَ تَعَالَى ( إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً [النساء:103]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ ( شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، وقال عز وجل ( يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ ) (البقرة:189) ، فَجَعَلَ اللهُ الأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلْعِبَادَاتِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ ، لِلْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِإفْطَارِ وَالكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالعِدَدِ وَالإِيلَاءِ وَغَيْرِهَا ، عِبَادَاتٌ وَأَحْكَامٌ مَوْقُوتَةٌ بِمَوَاقِيتَ مَحْدُودَةٍ ، مُرْتَبِطَةٌ بِالزَّمَنِ ، وَهَذَا الزَّمَنُ مُقَيَّدٌ بِالهِلَالِ ،
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُسْلِمُونَ : مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ لِأَوْقَاتِ العِبَادَاتِ عَلَامَاتٌ وَاضِحَةٌ ، لَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهَا فِئَةٌ دُونَ فِئَةٍ ، بَلْ يَشْتَرِكُ بِإِدْرَاكِهَا العَامَّةُ وَالخَاصَّةُ ، أُنِيطَتْ بِأُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ ، وَعَلَامَاتٍ مُشَاهَدَةٍ ، وَكَوَاكِبَ سَيَّارَةٍ ، يَعْرِفُهَا المُتَعَلِّمُ وَالأُمِّيُّ ، وَالحَاضِرُ وَالبَاد ، وَيَهْتَدِي بِطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا المُكَلَّفُونَ أَجْمَعُونَ ، مِنْ رُؤْيَةٍ وَطُلُوعٍ وَغُرُوبِ وَظِلٍّ وَزَوَالٍ ، فَأُنِيطَ ضَبْطُ العِبَادَاتِ وَالمُعَامَلَاتِ ، بِمَا تُدْرِكُهُ فُهُومُ عُمُومِ المُكَلَّفِينَ ، وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَاتُهُمْ ، وَمَا أَيْسَرَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187) وَمَا أَيْسَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هَا هُنَا ، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِن هَا هُنَا ، وغَرَبَتِ الشَّمْسُ فقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ )
إِنَّهَا أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ مَرْبُوطَةٌ بِأَبْسَطِ المَقَايِيسِ الحِسِّيَّةِ ، التِي يُدْرِكُهاَ البَدَوِيُّ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَالمُزَارِعُ فِي الحَقْلِ ، وَالنَّاسُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، مِنْ أَجْلِ هَذَا ، فَالعُمْدَةُ فِي دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَخُرُوجُهُ وَغَيْرُهُ مِنَ أَشْهُرِ المُسْلِمِينَ ، لَيْسَ الحِسَابُ الفَلَكِيُّ ، وَلَكِنْ رُؤْيَةُ الهِلَالِ ، وَلَا بَأْسَ بِالإِسْتِعَانَةِ بِالحِسَابِ الفَلَكِيِّ ، لِمَعْرِفَةِ مَنْزِلِ الهِلَالِ يَوْمَ الرُّؤْيَةِ ، وَدَرَجَةِ مَغِيبِهِ ، وَبُعْدِهِ الزَّاوِي ، لِتَسْهِيلِ رُؤْيَتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي دُخُولِ الشَّهْرِ وَخُرُوجِهِ ، إِنَّمَا العُمْدَةُ عَلَى الرُّؤْيَةِ ، هَذَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الأَدِلَّةِ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا ، وَالشَّارِعُ رَبَطَ دُخُولَ الشَّهْرِ بِإِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ : أَوَّلُهَا رُؤْيَةُ الهِلَالِ ، فَإِنْ لَمْ يُرَ ، وَجَبَ إِكْمَالُ العِدَّةِ ثَلاَثِينَ يَوْماً ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ)) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الهِلَالَ ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ)) رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ[2] وَالشَّهْرُ الهِلَالِيُّ يَكُونُ تَارَةً ثَلاَثِينَ يَوْماً، وَتَارَةً تِسْعاً وَعِشْرِينَ يَوْماً، كَمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وَالحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى رُؤْيَةِ الهِلَالِ بِالبَصَرِ، لَا عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ فِي السَّمَاءِ ، وَلَا عَلَى وِلَادَتِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُولَدُ وَلَا يُرَى ، وَنَحْنُ مُتَعَبَّدُونَ بِرُؤْيَتِهِ وَلَيْسَ بِوِلَادَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُرَ بِالبَصَرِ ، كَأَنْ حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ مِنْ غَمَامٍ أَوْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَّ وَهُوَ لَمْ يُرَ ، فَيَجِبُ إِكْمَالُ العِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْماً ، فَالرُّؤْيَةُ شَيْءٌ حِسِّيٌّ عَمَلِيٌّ، وَلَيْسَتْ فِكْراً وَلَا حِسَاباً، يَقُولُ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : "وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي صَوْمٍ إِلَّا بِرُؤْيَةٍ مُحَقَّقَةٍ أَوْ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُؤْيَةٌ وَلَا شَهَادَةٌ، أَكْمَلَ عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْماً " إِنْتَهَى كَلَامُهُ
أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : (وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:37-40].
نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، وَبِهَدْيِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيِمُ

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِه ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمَاً لِشَأْنِه ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً .
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : فَاخْتِلَافُ مَطَالِعِ الأَهِلَّةِ بَيْنَ البُلْدَانِ وَالأَقَالِيمِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ أَهْلِ الشَّأْنِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ العِلْمِ رَحِمُهُمْ اللهُ اخْتَلَفُوا إِذَا رُئِيَ الهِلَالُ فِي بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ فَهَلْ يَلْزَمُ جَمِيعَ البُلْدَانِ الصِّيَامَ ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ رَؤْيَتُهُمْ، وَذَهَبَ طَوَائِفٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى القَوْلِ بِلُزُومِ الصَّوْمِ عَلَى الجَمِيعِ، وَالأَمْرُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةُ وَلِلهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ وَاسِعٌ، وَالاِجْتِهَادُ فِيهَا فَسِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي التَّهْوِيلَ وَلَا الإِرْجَافَ ، وَلَا القَدْحَ فِي وُحْدَةِ المُسْلِمِينَ ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَدَاخِلِ وَمَخَارِجِ شُهُورِهِمْ ، فَالحَجُّ مَثَلًا يَتَقَرَّرُ دُخُولِ شَهْرِهِ ، بِحَسَبِ المَكَانِ الذِي فِيهِ عَرَفَةُ ، وَهِيَ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ ، وَأَمَّا غَيْرُ الحَجِّ مِنْ العِبَادَاتِ ، فَهِيَ تَتْبَعُ لِأَمَاكِنِهَا ، ، فَاخْتِلَافُ المُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ صَوْمِهِمْ وَيَوْمِ فِطْرِهِمْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي وُحْدَةِ المُسْلِمِينَ ، وَلَا حَرَجَ أَنْ يَصُومَ قُطْرٌ قَبْلَ قُطْرٍ ، أَوْ تُفْطِرَ دَوْلَةٌ قَبْلَ دَوْلَةٍ ، فَرُبَّمَا رَأَى هَؤُلَاءِ الهِلَالَ ، وَغُمَّ عَلَى أُولاَئِكَ فَلَمْ يَرَوْهُ فَقَدَرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْماً ، لَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ ، فَهَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي المَدِينَةِ ، لَمْ يُوَافِقْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الشَّامِ فِي يَوْمِ الدُّخُولِ وَلَا فِي يَوْمِ الخُرُوجِ ، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلى البَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ) [الأحزاب:56].