الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ مُسْدِي النِّعَمِ، دَافِعِ النِّقَمِ، مُجِيبِ الْمُضْطَرِّ، كَاشِفِ السُّوءِ، فَارِجِ الْهَمِّ، مُزِيلِ الْغَمِّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَفْضَلُ الشَّاكِرِينَ، وَقُدْوَةُ الْعَالَمِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَكْرَمِ الْمِنَنِ، وَأَفْضَلِ مَا يَهَبُهُ اللهُ تَعَالَى لِلإِنْسَانِ: نِعْمَةُ الْعَافِيَةِ ؛ وَهِيَ السَّلاَمَةُ فِي الدِّينِ مِنَ الْفِتْنَةِ ، وَفِي الْبَدَنِ مِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ ، وَكَذَلِكَ السَّلاَمَةُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَشُرُورِ النَّاسِ؛ يَقُولُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ–: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: عَلِّمْني شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللهَ تَعَالَى، قَالَ: «سَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ» فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: عَلِّمْني شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللهَ تَعَالَى، قَالَ لِي: «يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللهِ، سَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» [صححه شعيب الأرناؤوط].
فَمِنْ لُطْفِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعَبْدِ: إِدَامَةُ الْعَافِيَةِ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يَدُورُ فِي مِنْوَالِهَا، مِنْ دَوَامِ نِعَمِهِ ، وَابْتِعَادِ نِقَمِهِ الْمُفَاجِئَةِ عَنْهُ، وَحِفْظِهِ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ سَخَطِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» [رواه مسلم].
وَبَقَاءُ الْعَافِيَةِ وَدَوَامُهَا يَتَوَجَّبُ عَلَى الْعَبْدِ شُكْرُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهَا؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسْدِي النِّعَمِ، وَدَافِعُ النِّقَمِ، وَهُوَ أَحَقُّ مَنْ يُذْكَرُ وَيُشْكَرُ! لِمَا لَهُ مِنْ عَظِيمِ النِّعَمِ وَالْمِنَنِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِشُكْرِهِ عَلَى النِّعَمِ، فَقَالَ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].
وَوَعَدَ بِالزِّيَادَةِ فِيهَا بَعْدَ شُكْرِهِ عَلَيْهَا ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، وَالْمُسْلِمُ دَائِمُ الطَّلَبِ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ؛ إِذْ لَوْلاَ تَوْفِيقُ اللهِ لِعَبْدِهِ، وَإِعَانَتُهُ لَمَا حَصَلَ الشُّكْرُ، وَلِذَا شُرِعَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ طَلَبُ الإِعَانَةِ مِنَ اللهِ عَلَى شُكْرِهِ تَعَالَى.
فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» [رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني].
وَمِنَ النِّعَمِ مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ ذَهَابِ هَذَا الْوَبَاءِ، وَزَوَالِهِ وَانْكِسَارِهِ، وَهَذَا بِفَضْلٍ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقِّ لِخَالِصِ الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ، وَالذِّكْرِ لِجَمِيلِ الْعَطَاءِ.
فَهَذَا الْبَلاَءُ وَالْوَبَاءُ الَّذِي مَرَّ بِنَا وَبِغَيْرِنَا -عِبَادَ اللهِ- كَمْ مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَرِضَ بِهِ مَنْ مَرِضَ، وَعَافَاهُ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ عَجْزَنَا وَضَعْفَنَا، وَافْتِقَارَنَا وَحَاجَتَنَا لِرَبِّنَا الْقَائِلِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [ فاطر : 15 ] وَأَنَّهُ لاَ مَلْجَأَ لِلْعَبْدِ إِلاَّ إِلَى اللهِ، وَقَالَ: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [ الذاريات : 50 ] وَكُلُّ هَذَا يَجْعَلُنَا نَزْدَادُ يَقِينًا بِأَنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ، وَالْفَرَجَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَلاَ رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلاَ غَالِبَ لأَمْرِهِ، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [ يونس : 107 ]
فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى فِي تَحْقِيقِ تَوْحِيدِ رَبِّنَا، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّنَا، وَنَسْلُكَ مَسْلَكَ سَلَفِنَا، وَنُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا!
فَكَمْ جَلَبَتْ عَلَيْنَا الذُّنُوبُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ! وَكَمْ حَلَّتْ بِسَبَبِهَا مِنَ الاِبْتِلاَءَاتِ! حَتَّى حُرِمْنَا مِنْ مَسَاجِدِنَا وَصُفُوفِنَا وَتَصَافُحِنَا، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ الأَبْوَابَ لِعِبَادِهِ لِيَرْجِعُوا وَيَتُوبُوا، وَيَسْتَغْفِرُوا وَيُنِيبُوا، لِيُفْتَحَ عَلَيْهِمُ الْخَيْرُ كُلُّهُ، دِقُّهُ وَجِلُّهُ، عَلاَنِيَتُهُ وَسِرُّهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 96-99].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَصَابَنَا مِنْ مِحْنَةٍ وَبَلاَءٍ وَوَبَاءٍ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِهِ شَرٌّ فَفِيهِ الْخَيْرُ مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَمِمَّا لاَ نَعْلَمُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: 11].
فَكَمْ عَلَّمَنَا هَذَا الْوَبَاءُ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ : أَنَّ الْعَافِيَةَ لاَ تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، وَأَنَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ : خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً ، وَبِاللِّسَانِ: ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا، وَبِالْجَوَارِحِ: طَاعَةً وَانْقِيَادًا.
وَعَلَّمَنَا هَذَا الْوَبَاءُ أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ الإِسْلاَمُ بِهَا :
حِفْظُ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ: الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالْعِرْضِ، وَالْمَالِ؛ وَقَدْ قَيَّضَ لَنَا فِي بِلاَدِنَا بِفَضْلٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ قِيَادَتِنَا الْمُبَارَكَةِ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهَا، وَيَسْعَى لِتَحْقِيقِهَا لِكُلِّ فَرْدٍ فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ.
عَلَّمَنَا هَذَا الْوَبَاءُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْحِرْمَانِ : الْبُعْدَ عَنْ أَحَبِّ الأَمَاكِنِ إِلَى اللهِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، وَكَذَلِكَ تَبَاعُدُنَا عَنْ إِخْوَانِنَا فِي الصَّلاَةِ؛ وَلَكِنْ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامٌ.
عَلَّمَنَا هَذَا الْوَبَاءُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقِيَمِ الإِسْلاَمِيَّةِ نَسْتَطِيعُ التَّمَسُّكَ بِهَا وَلَوْ كُنَّا مَعْزُولِينَ عَنِ الْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ، وَأَنَّ الْكَمَالِيَّاتِ الَّتِي نَتَكَلَّفُ بِهَا لاَ حَاجَةَ لَهَا وَيُمْكِنُ الْعَيْشُ بِدُونِهَا، مِمَّا يَكُونُ فِيهِ إِسْرَافٌ وَتَبْذِيرٌ.
وَالآنَ وَبِفَضْلٍ مِنَ اللهِ كُشِفَتِ الْغُمَّةُ عَنِ الأُمَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْقُلُوبُ قَبْلَ الأَجْسَادِ فِي بُيُوتِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَتَرَاصَّتِ الصُّفُوفُ لِلصَّلاَةِ بَعْدَ التَّبَاعُدِ، وَسَمِعْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ لِكُلِّ عَبْدٍ سَاجِدٍ: الْوَصِيَّةَ بِالتَّرَاصِّ وَإِقَامَةِ الصُّفُوفِ، فَلِلّهِ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ.
هَذَا، وَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].
المفضلات