الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذِهِ الآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ تَتَكَلَّمُ عَنْ نَهْيِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَأْكُلُوا أَمْوَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ، كَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّشْوَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِ الْحِيَلِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَالِبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِمَّا يَعْلَمُ اللهُ أَنَّ مُتَعَاطِيَهَا إِنَّمَا يُرِيدُ الْحِيلَةَ عَلَى الرِّبَا بِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَاجَرَةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تَكُونُ عَنْ تَرَاضٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ: لاَ يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلاَ يَقْتُلِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ!
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ : الإِلْقَاءُ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَفِعْلُ الأَخْطَارِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى التَّلَفِ وَالْهَلاَكِ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ أَيْ: مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ صَانَ نُفُوسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَنَهَاكُمْ عَنْ إِضَاعَتِهَا وَإِتْلاَفِهَا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَا رَتَّبَهُ مِنَ الْحُدُودِ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ ، إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: شَرِيعَةُ الإِسْلاَمِ كُلُّهَا عَدْلٌ وَخَيْرٌ وَرَحْمَةٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً إِذَا الْتَزَمُوهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَامْتَثَلُوهَا؛ وَمِنْ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: حِفْظُ النَّفْسِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ، بَلْ مِنْ أَهَمِّ الضَّرُورِيَّاتِ بَعْدَ حِفْظِ الدِّينِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى سَلَامَةِ نَفْسِهِ وَحِفْظِهَا مِنَ الأَخْطَارِ وَالْمَهَالِكِ، وَقَدَ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195] قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِهِ: وَمِنْ ذَلِكَ تَغْرِيرُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي مُقَاتَلَةٍ أَوْ سَفَرٍ مَخُوفٍ، أَوْ مَحَلِّ مُسْبِعَةٍ أَوْ حَيَّاتٍ، أَوْ يَصْعَدُ شَجَرًا أَوْ بُنْيَانًا خَطِرًا، أَوْ يَدْخُلُ تَحْتَ شَيْءٍ فِيهِ خَطَرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَهىَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ. [صححه الألباني].
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ فَوْقَ سَطْحِ بَيْتٍ، وَخَاصَّةً عِنْدَ طَرَفَهِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَاجِزٌ؛ لأَنَّهُ يُخَافُ سُقُوطُهُ مَعَ اسْتِغْرَاقِ النَّوْمِ؛ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ نَفْسِهِ وَعَدَمِ تَعْرِيضِهَا لِلْهَلاَكِ، وَالْحَاجِزُ يَمْنَعُ الشَّخْصَ مِنَ السُّقُوطِ، وَيَنْسَحِبُ هَذَا النَّهْيُ عَلَى كُلِّ مَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ أَوْ نَفْسَ غَيْرِهِ لِلْهَلَكَةِ . وَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ مَأْمُورًا بِأَخْذِ الْحَيْطَةِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ مِنَ الْخَطَرِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهَا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ الآبَارُ الْمَهْجُورَةُ الَّتِي لَمْ يَقُمْ أَصْحَابُهَا بِتَحْصِينِهَا وَمَنْعِ الآخَرِينَ مِنَ السُّقُوطِ فِيهَا خُصُوصًا الأَطْفَالُ مِنْهُمْ؛ فَكَمْ مِنَ الْمَآسِي كَانَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الآبَارِ الَّتِي أَصْبَحَتْ مَقَابِرَ لِمَنْ سَقَطَ فِيهَا، وَذَلِكَ لِصُعُوبَةِ إِنْقَاذِهِمْ مِنْ رِجَالِ الإِنْقَاذِ وَالإِسْعَافِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا خَزَّانَاتُ الْمِيَاهِ المَكْشُوفَةُ الَّتِي لَمْ يُحْكِمْ صَاحِبُهَا غَلْقَهَا، وَالَّتِي تُشَكِّلُ خَطَرًا حَقِيقِيًّا عَلَى النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاحْرِصُوا عَلَى سَلاَمَتِكُمْ وَسَلاَمَةِ ذَوِيكُمْ وَالآخَرِينَ، وَتَعَاوَنُوا مَعَ الْجِهَاتِ ذَاتِ الاِخْتِصَاصِ بِالإِبْلاَغِ عَنِ الآبَارِ الْمَكْشُوفَةِ وَالْمَهْجُورَةِ لِرَدْمِهَا وَتَحْصِينِهَا؛ لِضَمَانِ سَلاَمَةِ عَابِرِي الطُّرُقِ وَالْمُتَنَزِّهِينَ؛ لِنَسْعَدَ جَمِيعًا بِالأَمْنِ وَالأَمَانِ، وَالسَّعَادَةِ وَالاِطْمِئْنَانِ فِي ظِلِّ شَرِيعَةِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ مُتَحَابِّينَ فِيكَ، مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، مَفَاتِيحَ خَيْرٍ لأَنْفُسِنَا وَالآخَرِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوََيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ».
فَالْمُؤْمِنُ يَخَافُ اللهَ وَيُخْلِصُ لَهُ وَيُطِيعُهُ، وَيُخَالِفُ نَفْسَهُ وَيَعْصِي هَوَاهُ، ويُقدِّم الآخِرَةَ الْبَاقِيَةَ عَلَى الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، هَذَا فِي تَعَامُلِهِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، أَمَّا مَعَ النَّاسِ فَهُوَ مِفْتَاحُ خَيْرٍ، وَدَلاَّلُ مَعْرُوفٍ، وسَفِيرُ هِدَايَةٍ، وَرَسُولُ صَلاَحٍ، وَبَاذِلُ جُودٍ، وَمِغلاَقُ شَرٍّ، وَدَافِعُ بَلاَءٍ، وَمَانِع نِقْمَةٍ، وَصِمَامُ أَمَانٍ مِنْ غَضَبِ الرَّحْمَنِ.
يَعِيشُ فِي مُجْتَمَعِهِ يَنبُوعًا يُفِيضُ بِالْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَيَتَدَفَّقُ بِالنَّفْعِ وَالْبَرَكَةِ؛ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَيَبْذُلُ الْمَعْرُوفَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِفْتَاحٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَمِغْلاَقٌ لِكُلِّ شَرٍّ.
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لاَ يُعْدَمْ جَوَازِيَهُ ** لاَ يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ
مَنْ يَزْرَعِ الْخَيْرَ يَحْصُدْ مَا يُسَرُّ بِهِ ** وَزَارِعُ الشَّرِّ مَنْكُوسٌ عَلَى الرَّاسِ
هَذَا وَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم ].