خطبة جمعة
بعنوان
( رحلة الهداية )
25/6/1443
كتبها
عبدالله بن فهد الواكد
جامع الواكد بحائل


الخطبة الأولى

الحَمْدُ للهِ المُتَفَرِّدِ بِالجَلَالِ وَالبَقَاءِ ، المُتَوَحِّدِ بِالكَمَالِ وَالكِبْرِيَاءِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ ، تَرَكَنَا عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ ، َصلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، أَهْلِ الجُودِ وَالكَرَمِ وَالوَفَاءِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَاعِبَادَ اللهِ : إتَّقُوا اللهَ القَائِلَ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : الدُّنْيَا لَا ثَمَرَةَ فِيهَا ، وَلَا خَيْرَ يُرْجَى مِنْهَا ، إِذَا لَمْ يَكُنْ سَعْيُ العَبْدِ فِي مَرْضَاةِ اللهِ ، وَعَمَلُهُ فِي مُرَاِد الإِلَهِ ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ ، مَا خُلِقَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِلَّعِبِ وَالعَبَثِ ، إِنَّمَا خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ ، وَلَكِنْ هَذِهِ المُتَعَ ، التِي تَحُفُّ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَالمَصَالِحَ التِي يَقْضِي بِهَا أَمْرَ مَعَاشِهِ ، وَلَوَازِمَ بَقَائِهِ ، إِنَّمَا هِيَ مُقَوِّمَاتٌ لِلْعِبَادَةِ ، وَمَسَانِدُ لِإِقَامَةِ الدِّينِ ، لَكِنَّ المَقْصَدَ العَظِيمَ مِنْ الخَلْقِ ، هُوَ عِبَادَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون ) الذاريات 56
إِخْوَةَ الإِسْلَامِ : سُؤَالٌ يَطْرَحُ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ ، لِتَتَأَمَّلُوهُ ، وَتُدْرِكُوهُ ، لِمَاذَا يُوَفَّقُ أُنَاسٌ لِعِبَادَةِ اللهِ ، وَيُخْذَلُ آخَرُونَ ؟ وَلِمَاذَا يَهْتَدِي أُنَاسٌ وَيَضِلُّ آخَرُونَ ؟ أَوَلَيْسُوا كُلُّهُمْ بَشَراً ، أَوَلَيْسُوا كُلُّهُمْ خَلْقَاً ، مَا الذِي جَاءَ بِسَلْمَانَ الفَارِسِيِّ ، يَدُكُّ مَجَالِدَ الأَرْضِ ، وَيَطْوِي أَصْقَاعَهَا ، مِنْ بِلَادِ فَارِس ، يَتَقَلَّبُ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ ، وَمِنْ رَاهِبٍ إِلَى رَاهِبٍ ، سُلِبَتْ حُرِّيَّتُهُ ، وَبِيعَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، وَهُوَ لاَ يَلْوِيهِ عَنْ مَبْتَغَاهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَثْنِيهِ عَنْ مُرَادِهِ مُرَادٌ ، حَتَّى اسْتَقَرَّ بِهِ الأَمْرُ ، وَآلَ بِهِ التِّجْوَالُ ، إِلَى العَمَلِ بِبُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ المَدِينَةِ ، فَلَمَّا جَاءَ البَشِيرُ بِقُدُومِ البَشِيرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَمِعَ الخَبَرَ وَهُوَ فِي فَرْعِ نَخْلَةٍ يَخْرِفُهَا لِسَيِّدِهِ ، فَانْسَلَخَ مِنْهَا سِرَاعًا وَخَرَجَ لِلِقَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدَخَلَ فِي دِينِ الإِسْلَامِ ، وَبِلَالٌ الحَبَشِيٌّ ، عُذِّبَ فِي الرَّمْضَاءِ وَلِسَانُهُ الذِي يَبِسَ عَطَشًا يَلْهَجُ أَحَدٌ أَحَدٌ ، فَسُبْحَانَ اللهِ ، أَيُّ هِمَّةٍ تِلْكَ ، وَأَيُّ صَبْرٍ عَلَى طَلَبِ الجَنَّةِ ذَلِكَ ، رِحْلَةُ الهِدَايَةِ ، رِحْلَةٌ عَظِيمَةٌ ، إِنَّ الهِدَايَةَ التِي يَسْعَى النَّاسُ إِلَيْهَا ، لَيْسَتْ نَامُوسًا يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ ، وَلَيْسَتْ طِبَاعَةً تُطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَلَا مِنْحَةً تُمْنَحُ إِيَّاهُمْ ، إِلَّا أَنْ يَسْعَوْا لَهَا سَعْيَهَا ، فَمَا الذِي وَفَّقَ لِلْهِدَايَةِ سَلَمَانَ الفَارِسِيَّ ، وَبِلَالَ الحَبَشِيَّ وَصَرَفَ عَنْهَا أَبَاطَالِبٍ وَأَبَاجَهْلٍ أَعْمَامَ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الهِدَايَةَ رِحْلَةٌ لَا يُوَفَّقُ لَهَا إِلَّا مَنْ سَعَى لَهَا وَسَعَى إِلَيْهَا ، قَالَ تَعَالَى : ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الإسراء 19
وَفِي البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ يَأْبَى؟! قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : إِنَّ الهِدَايَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ ، وَلَا يُمْكِنُ لِعَبْدٍ أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ، وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ مَقَالِيدَ أُمُورِ العَبْدِ الإِخْتِيَارِيَّةِ بِيَدِهِ ، وَأَزِمَّتَهَا فِي عِصْمَتِهِ ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَهْدِي المُدْبِرَ وَلَا يَهْدِي الكَافِرَ ، وَلَا يَهْدِي الظَّالِمَ ، وَلَا يَهْدِي الكَاذِبَ ، حَتَّى يَعُودَ هَؤُلَاءِ مُقْبِلِينَ ، بِسَجَايَا تُقَابِلَ سَجَايَا الإِدْبَارِ ، قَالَ تَعَالَى ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) آل عمران 86
وقال سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ( الزمر 3
وقال تعالى : ( ولَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف 5
لِأَنَّ الإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وَالإِدْبَارَ عَنْ هُدَى اللهِ ، وَهَدْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ مُوجِبَاتِ خَتْمِ القُلُوبِ ، وَامْتِنَاعِ مَحِلِّ الهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ : كَثِيرًا مَا نُعَلِّقُ أَمْرَ تَقْصِيرِنَا فِي التَّرْبِيَةِ ، عَلَى عَدَمِ حَيْنُونَةِ الهِدَايَةِ ، وَأَنَّ الهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ ، وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ، هُوَ الذِي صَرَفَ الهِدَايَةَ عَنَّا ، وَأَفَاضَهَا عَلَى آخَرِينَ ، وَهَذَا الكَلَامُ صَحِيحٌ فِي عُمُومِهِ ، خَطَأٌ فِي خُصُوصِهِ ، فَالهِدَايَةُ صُرِفَتْ عَمَّنْ صُرِفَتْ عَنْهُ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي طَلَبِهَا ، وَوُفِّقَ إِلَيْهَا مَنْ سَعَى وَاجْتَهَدَ فِي طَلَبِهَا ، فَأَيْنَ سَعْيُ مَنْ ابْتَغَاهَا ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدُنَا ، أَنْ يَعِيشَ هُوَ وَأُسْرَتُهُ ، دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بَيْتٌ يَأْوُونَ إِلَيْهِ ، وَمَسْكَنٌ يَكْتَنِفُونَهُ ، جَوَّالُكَ الذِي فِي جَيْبِكَ هَلْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تَحْفَظَ فِيهِ شَيْئًا دُونَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مَكَانٌ لِلْحِفْظِ وَالتَّخْزِينِ فَهَذِهِ القَاعِدَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا ، لَوْ نَصَحْتَ شَخْصَيْنِ بِنَصِيحَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَاسْتَنْصَحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَسْتَنْصِحْ الآخَرُ ، فَإِنَّ لَدَى أَحَدِهِمَا مَحَلٌّ لِقُبُولِ النَّصِيحَةِ دُونَ الآخَرِ ، قَالَ بْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ ( ثُمَّ فَكَّرْتُ ، هَلْ لِلتَّوْفِيقِ وَالخُذْلَانِ سَبَبٌ أَمْ هُمَا بِمُجَرَّدِ المَشِيئَةِ لَا سَبَبَ لَهُمَا ؟ فَإِذَا سَبَبُهُمَا أَهْلِيَّةُ المَحَلِّ وَعَدَمُهَا ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ المَحَالِّ مُتَفَاوِتَةً فِي الإِسْتِعْدَادِ وَالقُبُولِ أَعْظَمُ تَفَاوُتٍ ) إِنْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ ( الفوائد – التوفيق والخذلان ) .
فَالأُمُورُ المَعْنَوِيَّةُ ، كَالنَّصَائِحِ وَالمَوَاعِظِ ، شَأْنُهَا شَأْنُ الأُمُورِ الحِسِّيَّةِ لاَ بُدَّ لِدُخُولِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا وَبَقَائِهَا ، مِنْ مَحَلٍّ تَبْقَى فِيهِ ، وَمَكَانٍ تَسْكُنُ إِلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ نُوجِدْ لِلْمَوْعِظَةِ مَحَلاًّ ، فَكَيْفَ يَتَضَمَّخُ بِهَا القَلْبُ ، وَهِيَ تَلِجُ مِنْ هَاهُنَا وَتَخْرُجُ مِنْ هُنَالِكَ ، فَبَقَاؤُهَا بِبَقَاءِ صَدَى النَّصِيحَةِ فِي الأُذُنَيْنِ ، فَهَلْ تَنَبَّهْنَا لِأَهَمِّيَّةِ المَكَانِ ، وَقِيمَتِهِ العَظِيمَةِ ، فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ ، وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ فِيهِمْ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الأنفال22-23
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

الخطبة الثانية

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، َوالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا للهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، َوأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، عِبَادَ اللهِ : فاتَّقُوا اللهَ القَائِلَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
إِخْوَةَ الإِسْلَامِ : إِنَّ أَهَمِّيَّةَ المَكَانِ ، الذِي يِغْفَلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، لَعَظِيمَةٌ جِدًّا ، وَهُوَ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالنَّقْلِ قَبْلَ العَقْلِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) يونس 42
وقال سبحانه ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) النمل 80
نَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ جَمِيعًا ، لِفَتْحِ أَمَاكِنِ الخَيْرِ فِي قُلُوبِنَا ، وَسُلُوكِ سُبُلِ الهِدَايَةِ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ ، صَلوا وسلموا على النبي المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم