الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ السُّوَائِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: آخَى النَّبِيُّ _ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ». فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» [رواه البخاري].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دِينُنَا الإِسْلاَمِيُّ دِينُ سَمَاحَةٍ وَيُسْرٍ، وَدِينُ تَوَازُنٍ وَاتِّزَانٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : تَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ التَّوَازُنِ فِي الْحَيَاةِ، وَضَرُورَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ مُتَّزِنًا فِي تَعَامُلِهِ، لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرٍ يَكُونُ اهْتِمَامُهُ بِهِ عَلَى حِسَابِ غَيْرِهِ، وَلاَ يُقَدِّمُ الْمُهِمَّ عَلَى الأَهَمِّ، وَالْفَاضِلَ عَلَى الْمَفْضُولِ؛ فَحَقُّ اللهِ تَعَالَى مِنْ أَوْجَبِ الْحُقُوقِ؛ فَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الأَرْضِ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ هَمَلاً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
وَإِنَّمَا خَلَقَهُ لأَمْرٍ عَظِيمٍ وَهُوَ إِفْرَادُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حَقَّ اللهِ تَعَالَى عِنْدَمَا سَأَلَ مُعَاذًا؛ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» [متفق عليه].
وَمِنْ كَرَمِ اللهِ وَفَضْلِهِ أَرْسَلَ لَنَا رَسُولاً يُبَيِّنُ لَنَا الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ لأَدَاءِ هَذَا الْحَقِّ الْعَظِيمِ للهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً﴾ [المزمل : 15 -16].
فَإِذَا أَدَّى الْعَبْدُ حَقَّ رَبِّهِ بِإِخْلاَصٍ ؛ انْتَظَمَتْ بَعْدَهَا لَهُ الْحُقُوقُ ، وَيَسَّرَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُ؛ وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ نَفْسِهِ عَلَيْهِ؛ مِنْ إِصْلاَحِهَا، وَحِمَايَتِهَا مِنَ الأَفْكَارِ الْمُنْحَرِفَةِ الَّتِي قَدْ تُفْسِدُهَا، وَإِسْعَادِهَا بِكُلِّ مَا هُوَ حَلاَلٌ، وَوِقَايَتِهَا مِنَ الأَمْرَاضِ، وَتَحْقِيقِ التَّوَازُنِ بَيْنَ رَغَبَاتِ نَفْسِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَرَاحَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَاعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ النَّفْسَ جَاءَتْ بِالْقُرْآنِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ هِيَ:
نَفْسٌ لَوَّامَةٌ أَقْسَمَ اللهُ بِهَا فَقَالَ تَعَالَى: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ وَهِيَ كَثِيرَةُ اللَّوْمِ لِصَاحِبِهَا عَلَى فِعْلِ مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ ؛ فَتَجِدَ الْعَاصِي يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ، ثُمَّ إِذَا فَكَّرَ لاَمَ نَفْسَهُ، وَمَنْ يَبِيعُ السِّلْعَةَ، ثُمَّ إِذَا فَكَّرَ لاَمَ نَفْسَهُ ، وَهَكَذَا.
وَالنَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللهُ عَنْهَا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾
[الفجر: 27-30]، فَهِيَ النَّفْسُ الَّتِي اطْمَأَنَّتْ إِلَى مَحَبَّةِ رَبِّهَا وَعُبُودِيَّتِهِ وَذِكْرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى لِقَائِهِ وَوَعْدِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى الرِّضَا بِهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى كِفَايَتِهِ وَضَمَانِهِ، فَاطْمَأَنَّتْ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ رَبُّهَا وَإِلَهُهَا وَمَعْبُودُهَا وَمَلِيكُهَا وَمَالِكُ أَمْرِهَا كُلِّهِ، وَأَنَّ مَرْجِعَهَا إِلَيْهِ، وَأَنَّهَا لاَ غِنًى لَهَا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.
وَأَمَّا النَّفْسُ الثَّالِثَةُ: فَهِيَ النَّفْسُ الأَمَّارَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَاكِيًا عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ :﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53]. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَأَمَّا النَّفْسُ الأَمَّارَةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَرِينُهَا وَصَاحِبُهَا الَّذِي يَلِيهَا، فَهُوَ يَعِدُهَا وَيُمَنِّيهَا وَيَقْذِفُ فِيهَا الْبَاطِلَ، وَيَأْمُرُهَا بِالسُّوءِ وَيُزَيِّنُهُ لَهَا، وَيُطِيلُ الأَمَلَ، وَيُرِيهَا الْبَاطِلَ فِي صُورَةٍ تَقْبَلُهَا وَتَسْتَحْسِنُهَا، وَيُمِدُّهَا بِأَنْوَاعِ الأَمْدَادِ الْبَاطِلَةِ مِنَ الأَمَانِي الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُهْلِكَةِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهَا بِهَوَاهَا وَإِرَادَتِهَا، فَمِنْهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا كُلُّ مَكْرُوهٍ ... إِلَى آخِرِ كَلاَمِهِ رَحِمَهُ اللهُ.
اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَقِنَا شَرَّ الشَّيْطَانِ وَشَرَّ أَنْفُسِنَا، وَلاَ تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ حُقُوقِ النَّفْسِ عَلَى الْمَرْءِ: الْعِنَايَةَ بِصِحَّةِ نَفْسِهِ مِنَ النَّظَافَةِ وَالْقُوَّةِ وَالرَّاحَةِ، وَفِعْلَ أَسْبَابِ الشِّفَاءِ مِنْ أَمْرَاضِهَا؛ بَلْ جَعَلَ الإِسْلاَمُ صِحَّةَ الْجِسْمِ وَمُعَافَاةَ الْجَسَدِ مِنْ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ وَالسَّعَادَةِ، فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» [رواه البخاري في «الأدب المفرد» وحسنه الألباني].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.
المفضلات