الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ عَزَّ وَاقْتَدَرَ، وَعَلاَ وَقَهَرَ، لاَ مَحِيدَ عَنْهُ وَلاَ مَفَرَّ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ وَقَدْ تَأَذَّنَ بِالزِّيَادَةِ لِمَنْ شَكَرَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ؛ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ إِذَا أَنَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تُنْجِي قَائِلَهَا يَوْمَ الْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ فِي الْمَحْشَرِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ الأَخْيَارِ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَا اتَّصَلَتْ عَيْنٌ بِنَظَرٍ وَأُذُنٌ بِخَبَرٍ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21] فِي هَذِهِ الآيَةِ الْعَظِيمَةِ: دَعْوَةٌ مِنَ الرَّبِّ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِلإِنْسَانِ إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّبَصُّرِ وَالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ؛ وَهِيَ أَقْرَبُ الأَشْيَاءِ إِلَيْهِ وَقَدْ كُوِّنَ مِنْ قَطْرَةِ مَاءٍ: لُحُومًا مُنَضَّدَةً وَعِظَامًا مُرَكَّبَةً، وَأَوْصَالاً مُتَعَدِّدَةً، وَحَوَاسَّ دَقِيقَةً؛ وَمِنْ ذَلِكَ حَاسَّةُ الْبَصَرِ، وَالَّتِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ [المؤمنون: 78]، وَقَالَ : ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 8 -10]، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الَّذِي اسْتَنَارَتْ لَهُ آيَاتُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَسَطَعَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُ غَمَرَاتُ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَظَرَ إِلَى عَيْنَيْهِ؛ وَجَدَ لَهَا بَابَانِ لِلْبَصَرِ، وَجَعَلَ دَاخِلَ بَابَيِ الْبَصَرِ مَالِحًا! لِئَلاَّ تُذِيبَ الْحَرَارَةُ الدَّائِمَةُ مَا هُنَاكَ مِنَ الشَّحْمِ، وَجَعَلَ الْعَيْنَيْنِ لَهُ كَالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ مُرَكَّبَيْنِ فِي أَعْلَى مَكَانٍ مِنْهُ، وَفِي أَشْرَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، يُبْصِرُ بِهَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَغَشَّاهَا بِسَبْعِ طَبَقَاتٍ، وَثَلاَثِ رُطُوبَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ حِمَايَةً لَهَا وَصِيَانَةً وَحِرَاسَةً، وَجَعَلَ عَلَى مَحَلِّهَا غَلْقًا بِمِصْرَاعَيْنِ أَعْلَى وَأَسْفَلَ، وَرَكَّبَ فِي ذَيْلِ الْمِصْرَاعَيْنِ أَهْدَابًا مِنَ الشَّعْرِ وِقَايَةً لِلْعَيْنِ وَزِينَةً وَجَمَالاً، وَجَعَلَ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَاجِبَيْنِ مِنَ الشَّعْرِ يِحْجُبَانِ الْعَيْنَ مِنَ الْعَرَقِ النَّازِلِ وَالأَذَىَ، وَجَعَلَ فِيهَا بَيَاضًا وَسَوَادًا، وَجَعَلَ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ فِي السَّوَادِ، وَجعَلَ الْبَيَاضَ مُسْتَقَرًّا لَهَا وَمَسْكَنًا وَزَيَّنَ كُلاًّ مِنْهُمَا بِالآخَرِ، وَخَلَقَ سُبْحَانَهُ لِتَحْرِيكِ هَذَا السَّوَادِ وَتَقْلِيبِهَا أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ عَضَلَةً؛ لَوْ نَقَصَتْ عَضَلَةٌ وَاحِدَةٌ لاَخْتَلَّ أَمْرُ الْعَيْنِ، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ!
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، وَالَّتِي مِنْهَا نِعْمَةُ الْبَصَرِ لِيَشْكُرُوهُ وَلاَ يَكْفُرُوهُ، وَيُطِيعُوهُ وَلاَ يَعْصُوهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].
وَمِنْ تَمَامِ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْبَصَرِ: اسْتِشْعَارُ عِظَمَ نِعْمَةِ الْبَصَرِ، وَأَنَّهُمَا الْحَبِيبَتَانِ لِلإِنْسَانِ؛ كَمَا سَمَّاهُمَا الرَّبُّ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» [رواه البخاريُّ]، وَكَذَلِكَ اسْتِشْعَارُ حَالَةِ الأَشْخَاصِ الَّذِينَ حُرِمُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ.
وَمِنْ تَمَامِ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْبَصَرِ: التَّفَكُّرُ فِي آيَاتِ اللهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي أَوْجَدَهَا وَخَلَقَهَا وَكَمَّلَهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِكَمَالِ الْعِبَادَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق:6].
وَمِنْ تَمَامِ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْبَصَرِ: اسْتِعْمَالُ نِعْمَةِ الْبَصَرِ فِيمَا يُرْضِي الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ مِنْ تِلاَوَةٍ لِكِتَابِ اللهِ، وَمُطَالَعَةِ السُّنَّةِ، وَقِرَاءَةِ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ، وَفِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْعِبَادِ وَالْبِلاَدِ؛ قَالَ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ–: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
[رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وَمِنْ تَمَامِ شُكْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْبَصَرِ: امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِغَضِّ الْبَصَرِ وَالْبُعْدِ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ؛ لاَسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي تَكَاثَرَتْ فِيهِ الشُّرُورُ ، وَتَنَوَّعَتْ فِيهِ الْمَفَاسِدُ ، وَأَتَتْ إِلَى الْعِبَادِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ؛ وَمِنْ خِلاَلِ وَسَائِلَ شَتَّى: فِي الْبُيُوتِ وَالْجُيُوبِ وَالشَّوَارِعِ وَالأَسْوَاقِ؛ جَلَبَتْ لَهُمُ الْمَنَاظِرَ الْمُحَرَّمَةَ وَالصُّوَرَ الآثِمَةَ الَّتِي إِذَا أَطْلَقَ الإِنْسَانُ لِبَصَرِهِ الْعِنَانَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا أَفْسَدَتْ قَلْبَهُ وَأَهْلَكَتْهُ؛ وَاللهُ يَقُولُ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور:30].
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ، وَأَعْمَالَنَا مِنَ الرِّيَاءِ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ، وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِي غَضِّ الْبَصَرِ فَوَائِدَ عَدِيدَةً ذَكَرَهَا الإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْهَا:
تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ أَلَمِ الْحَسْرَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ دَامَتْ حَسْرَتُهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُورِثُ الْقَلْبَ نُورًا وَإِشْرَاقًا يَظْهَرُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ وَفِي الْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ إِطْلاَقَ الْبَصَرِ يُورِثُهُ ظُلْمَةً تَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ وَجَوَارِحِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُورِثُ الْقَلْبَ سُرُورًا وَفَرْحَةً وَانْشِرَاحًا أَعْظَمَ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ الْحَاصِلِ بِالنَّظَرِ، فَلَذَّةُ الْعِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَسُدُّ عَنِ الْعَبْدِ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ بَابُ الشَّهْوَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى مُوَاقَعَةِ الْفَاحِشَةِ، فَمَتَى غَضَّ بَصَرَهُ سَلِمَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ، وَمَتَى أَطْلَقَهُ كَانَ هَلاَكُهُ أَقْرَبَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُورِثُ مَحَبَّةَ اللهِ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُجَاهِدٍ: غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ يُورِثُ حُبَّ اللهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْفَظُوا اللهَ تَعَالَى بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ يَحْفَظْكُمْ بِبَصَائِرِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
المفضلات