خطبة جمعة
بعنوان
صلاح الفرد أثره وأسبابه
كتبها / عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخُطْبَةُ الأُولَى
الحمدُ للهِ ، قدَّمَ من شاءَ بفضلِهِ ، وأخرَّ من شاءَ بعدلِهِ ، هو الكريمُ الوهابُ ، هازمُ الأحزابِ ، ومنشئُ السحابِ ، ومنزلُ الكتابِ ، ومسببُ الأسبابِ ، وخَالِقُ النَّاسِ مِن تُرابٍ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله ، وحدَهُ ولا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلم تسليماً كثيراً
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ المُجْتَمَعَاتِ مُكَوَّنَةٌ مِنْ أُسَرٍ وَالأُسْرَةُ مُكَوَّنَةٌ مِنْ أَفْرَادٍ وَبِالتَّالِي فَإِنَّ صَلاَحَ المُجْتَمَعِ وَفَسَادَهُ وَخَيْرَهُ وَشَرَّهُ وَنُمُوَّهُ وَدُنُوَّهُ وَازْدِهَارَهُ وَانْعِثَارَهُ قَائِمٌ عَلَى الأَفْرَادِ فَهُمْ الرَّكِيزَةُ الأُولَى لِلْمُجْتَمَعَاتِ وَمِنْ ثَمَّ الأَوْطَانُ ، فَالفَرْدُ هُوَ الُمحَرِّكُ الأَوَّلُ لِشُؤُونِ الحَيَاةِ سَلْبًا وَإِيجَاباً ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ القَلْبِ فِي الَجَسَدِ فَهُوَ فَرْدٌ فِي الُمجْتَمَعِ وَالقَلْبُ فَرْدٌ فِي الجَسَدِ قَالَ تَعَالَى (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) ... 4 الأحزاب ، فَمُعظَمُ أَعْضَاءِ الِإنْسَانِ زَوْجِيَّةٌ أَوْ مُتَعَدِّدَةٌ وَلَكِنَّ القَلْبَ فَرْدٌ وَلِذَلِكَ فَهُوَ القَائِدُ لِهَذَا الجَسَدِ صَلاَحاً وَفَسَادًا قَالَ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ( ألَا وَإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وَهِيَ القَلْبُ )
وَوَاجِبُ الأَفْرَادِ فِي المُجْتَمَعَاتِ هُوَ التَّعَاوُنُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي سَبِيلِ رَتْقِ نَسِيجِ المُجْتَمَعِ وَشَدِّ أَوَاصِرِ لُحْمَتِهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بِيْنِهِ وَمُعَالجَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ الوَسَائِلُ الحَدِيثَةِ قَالَ تَعَالَى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة ، فَالمَسْؤُولِيَّةُ المُلْقَاةُ عَلىَ عَاتِقِكَ أَيُّهَا الفَرْدُ جَسِيمَةٌ فَأَنْتَ مَسْؤُولٌ أَمَامَ اللهِ وَأَمَامَ المُجْتَمَعِ وَأَمَامَ الوَطَنِ وَأَمَامَ وُلَاةِ الأَمْرِ عَنْ تَفْرِيطِكَ فِي هَذَا الجَانِبِ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُماَ، عَنِ النَّبىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهُ قَالَ: ((ألا كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رعيَّتِه ) رواه البخاري ،
وَكُلَّمَا كَانَ الفَرْدُ صَالِحًا انْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى المُجْتَمَعِ بِرُمَّتِهِ ،
وَمِنْ أَسْبَابِ صَلَاحِ الفَرْد : هُوَ الْتِزَامُهُ بِشَرْعِ اللهِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاقْتِدَائِهِ بِسُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْرِ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ الفَرْدُ قُدْوَةً مَاثِلَةً لِمَنْ خَلْفَهُ مِنَ النَّشْءِ وَالذُّرِّيَةِ ، وَالقُدْوَةُ المُؤَثِّرُ فِي المُجْتَمَعِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي الآخَرِينَ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ كَلِمَةً وَاحِدَةً ، وَلَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الآخَرِينَ بِسُلُوكِهِ وَتَدَيُّنِهِ وَخُلُقِهِ وَسَمْتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَخُلُقِهِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ المُشْرِقَةُ فِي القُدُوَاتِ جَعَلَتْ الكَثِيرِينَ مِنَ الكُفَّارِ فَضْلاً عَنْ المُنْحَرِفِينَ يَدْخُلُونَ دَينَ الإِسْلاَمِ وَيَتْرُكُونَ المُحَرَّمَاتِ مِنْ خِلَالِ تَأَثُّرِهِمْ بِكَمَالِ دِينِ الإِسْلَامِ وَجَمَالِهِ وَسِيرَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةِ صَحْبِهِ الكِرَامِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ قَالَ تَعَالَى (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) الأحزاب
وَمِنْ أَسْبَابِ صَلَاحِ الفَرْدِ أَيْضاً : هُوَ صَلَاحُ فِكْرِهِ وَمَنْهَجِهِ وَسَلاَمَةُ عَقِيدَتِهِ وَوَلاَؤُهُ لِوُلاَةِ أَمْرِهِ ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَخُصُوصاً فِي هَذِهِ البِلَادِ التِي قَامَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمُحَارَبَةِ البِدَعِ بِشَتَّى صُوَرِهَا ، لَكِنَّ النَّاسَ فِي آزِفِ أَيَّامِهِمْ لاَثُوا بِسَيْلِ الإِنْتَرْنِتْ الهَادِرِ وَوَسَائِلِهِ الحَدِيثَةِ حَتَّى أَصْبَحَتْ الأَرْضُ كُلُّهاَ فِي الكَفِّ يَطُوفُ الفَرْدُ بِهَا مِنْ خِلَالِ جَوَّالِهِ حَيْثُمَا شَاءَ ، فَسَرَقَتْ هَذِهِ الوَسَائِلُ مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَيَفَعَ عُمُرُهُ ، صَفَاءَ العَقِيدَةِ وَسَلاَمَةَ المَنْهَجِ وَاسْتِقَامَةَ الأَخْلَاقِ وَأَصَالَةَ القِيَمِ ، فَلاَ سَبِيلَ لِإِصْلاَحِ الفَرْدِ نَفْسِهِ إِلاَّ بِالعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَالحِرْصِ عَلَى فَهْمِ العَقِيدَةِ فِي ضَوْءِ فَهْمِ السَّلَفِ الصَّالحِ الُمنْضَبِطِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالفَهْمِ السَّلِيمِ لِيَسْلَمَ الفَرْدُ مِنْ جَرْفِ الإِنْحِرَافَاتِ العَقَدِيَّةِ وَالفِكْرِيَّةِ ثُمَّ التَّفَقُّهُ فِي شَرْعِ اللهِ وَوَسَائِلُ ذَلِكَ وَمَصَادِرُهُ وَللهِ الحَمْدُ دَانِيَةُ الرُّفُوفِ وَالقُطُوفِ ،وَكَذَلِكَ وَلَاءُ الفَرْدِ لِوَطَنِهِ وَأُمَّتِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى بَيْتِهِ وَمَوْطِنِهِ فَهُوَ المَكَانُ الذِي يُعْبَدُ فِيهِ الغَفَّارُ وَتُقْضَى بِهِ الأَعْمَارُ وَتُعْمَرُ بِهِ الدِّيَارُ وَتُنَالُ بِهِ الأَوْطَارُ ،
بَلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ
وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ
فَالوَطَنُ هُوَ الَمَكَانُ الذِي تَجْتَمِعُ فِيهِ الأُمَّةُ بِمُجْتَمَعَاتِهَا وَأُسَرِهَا وَأَفْرَادِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَدَى الفَرْدِ الحِسُّ الأَمْنِيُّ وَالإِجْتِمَاعِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ إِصْلاَحُ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا الخَلَلِ ، فَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الأَوْطَانِ غَيْرُ أَهْلِهَا وَلَنْ يُدَافِعَ عَنْ تُرَابِهَا غَيْرُ أَبْنَائِهَا
وَمِنْ أَسْبَابِ صَلَاحِ الفَرْدِ أَيْضاً : صَلَاحُ أَخْلَاقِهِ وَالتَّرَفُّعُ بِهَا عَنْ وُحُولِ السَّفَاسِفِ وَالدَّنَاءَةِ ، التِي تُورِثُ الَهَمَّ وَالغَمَّ ، وَتَعْصِفُ بِالنَّفْسِ البَشَرِيَّةِ فَتَجْعَلُهَا نَهْبَ أَثْبَاجِ الأَوْهَامِ وَالأَحْلاَمِ وَالآلاَمِ التِي تُغْلِقُ عَلَى صَاحِبِهَا مَنَافِذَ الخَيْرِ وَالإِسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ وَالسَّعَادَةِ ، فَيَشُذُّ الفَرْدُ عَنْ مُجْتَمَعِهِ الُمُحَافِظِ وَيَعِيشُ فِي تَنَاقُضَاتٍ مُؤْلِمَةٍ وَنَجَعَاتٍ مُظْلِمَةٍ ، فَلاَ سَعَادَةَ لِقَلْبٍ انْفَصَمَ عَنْ هَدْيِ خَالِقِهِ وَفِطْرَةِ بَشَرِيَّتِهِ ، وَلاَ أُنْسَ لِنَفْسٍ تَاقَتْ إِلَى رُكُوبِ المُخَالَفَاتِ لِلْوُصُولِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاِوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطَبةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَيُّهَا الْمُسلمونَ: ذَكَرْنَا ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ لِصَلاَحِ الفَرْدِ فِي المُجْتَمَعِ لِأَنَّ قِيمَةَ الَفَرْدِ فِي المُجْتَمَعِ تجعَلُنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الفَرْدِ عَظِيمٌ جِدًّا فِي نَشْرِ الفَضِيلَةِ وَدَرْءِ الرَّذِيلَةِ فِي مُجْتَمَعِهِ مِنْ خِلَالِ سُلُوكِهِ المُتَّزِنِ وَوَعْيِهِ وَإِدْرَاكِهِ وَلَا تَصْلُحُ المُجْتَمَعَاتِ إِلَّا بِصَلاَحِ أَفْرَادِهَا ، وَالفَرْدُ فِي المُجْتَمَعِ بِمَثَابَةِ القَلْبِ فِي الجَسَدِ ، فَاحْرِصُوا يَاعِبَاَدَ اللهِ عَلَى صَلَاحِ قُلُوبِكُمْ تَصْلُحْ مُجْتَمَعَاتِكُمْ وَأُمَّتَكُمْ ، هَذَا صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المفضلات