الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته أجمعين .
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))
أما بعدُ أيها المسلمون :
إنَّكم تستهلُّون شهراً من أشهُرِ اللهِ الحُرُمِ التي ينبغي لناَ جميعاً أنْ نعلمَ كم هيَ عظيمةٌ عندَ المشركينَ قبلَ أنْ يبعثَ اللهُ محمداً صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بل إنَّها محرمةٌ مُذْ خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ يقولُ اللهُ تعالى: ( إِنَّ عدةَ الشهورِ عندَ الهِ اثْنا عشرَ شهراً في كتَـابِ اللّهِ يومَ خلقَ السماواتِ والأرضَ منها أَربعةٌ حرمٌ ذلكَ الدينُ القيمُ فَلاَ تَظْلموا فيهِن أنفسَكم ) والأشهرُ الحرمُ أربعةُ أشهُرٍ ، هي هذا الشهرُ الذي أنتم فيهِ ، شهرُ ذي القعدةِ ، وسُمى بذلكَ ، لأنَّ العربَ كانوا يتوقفونَ فيه عن القتالِ ، بعدَ أنْ كانَ مستمراً بينَهم ، طيلةَ أشهُرِ شعبانَ ورمضانَ وشوالَ ، فإذا هلَّ هلالُ هذا الشهرِ ، قعدوا عن القتالِ ثلاثة أشهر ، هي هذا الشهر ، شهر ذي القعدة ، وذي الحجة والمحرم ، ثم عادوا للغزوِ والسلبِ والقتالِ ، حتى يهلَّ هلالُ رجبَ ، هذه هي الأشهرُ الحرمُ الأربعةُ ، ثلاثةٌ سردٌ ، وواحدٌ فردٌ ، وهو شهرُ اللهِ رجبُ الفردُ ، وقد كان المشركونَ يتشاءمونَ من شهرِ صفرَ ، لأنهم يعودونَ فيهِ إلى السلبِ والنهبِ ، والغزوِ والقتلِ ،
بعدَ الكفِّ عن ذلكَ في الأشهرِ الحُرُمِ ،فبيَّنَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، ضلالةَ تشاؤُمِهم ، وبطلانَ اعتقادِهم ،ومنعَهُ بقولِهِ : ((لا صفَرَ)) ، لأنَّ المُقرِّرَ للأحداثِ والأشياءِ هو اللهُ ، ولا دخلَ للزمنِ ، فيما يقعُ في الكونِ ، من خيرٍ وضيرٍ، فمنْ سبَّ الدهرَ ، بسببِ ما وقعَ فيه من أقدارٍ ضارةٍ ، فكأنما سبَّ اللهَ تعالى ، مقدِّرَ الأقدارِ كلِّها ، ومقلبَ الليلِ والنهارِ،
أيها الأحبة المسلمون ،
كان مشركو العربِ ، يتلاعبونَ بحرمةِ هذه الأشهرِ ، فيؤخرونَ حرمةَ شهرِ اللهِ المحرمَ إلى صفرَ ، إذا أرادوا القتالَ فيهِ ، ويسمونَهُ النسيءَ ، وقد أبطلَ اللهُ نسيئَهم هذا ، وبينَ أنهُ إمعانٌ في الكفرِ ، وإيغالٌ في الضلالةِ ، بقولهِ سبحانهُ وتعالى : ( إنما النسىءُ زيادةٌ فى الكفرِ يُضلُّ بِه الذين كَفروا يحلونهُ عاما ويحرمونهُ عاماً ليواطئوا عدةَ ما حرمَ اللهُ ،فيحلوا ما حرمَ اللهُ )
عباد الله :
إنَّ تحليلَ ماحرمَ اللهُ وتحريمَ ما أحلَّ اللهُ لهو لعِبٌ بشريعةِ اللهِ وافتراءً على اللهِ فسبحانَ اللهِ ، كم قد بلغَ تلاعبُ المشركينَ بالأشهرِ ، حتى غيروها عن هيئتِها الأولى ، يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ ، ولو استمرَالأمرُ على تلاعُبِهم ، لما تيقنَ الناسُ في صومٍ ولا حجٍ ، ولكنَّ اللهَ بفضلِهِ وكرمِهِ ، جعلَ حجةَ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم ، في السنةِ العاشرةِ من الهجرةِ ، منطلقاً لضبطِ الأشهُرِ ، فوقوفُهُ بعرفةَ ، واقعٌ في موقِعِهِ ، في اليوم التاسعِ من ذي الحجةِ ، وعيدُهُ في اليومِ العاشرِ منهُ ، وأعلنها صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بقولهِ : ((إنَّ الزمانَ قد استدارَ ، كهيئتِهِ يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ)) ،
فأبطلَ بإعلانِهِ هذا ، كلَّ نسيءٍ نسأَهُ المشركون ، وضبطَ التأريخَ ، بوقوفِه بعرفةَ ، وكلُّ تقديمِ يومٍ أو تأخيرِ يومٍ ، في شهرٍ من الشهورِ ، يعودُ الهلالُ فيضبطُهُ ، فالشهرُ القمريُّ ، إما ثلاثونَ يوماً ، أو تسعٌ وعشرونَ يوما ، فالنذورُ ، والعدةُ ، والكفاراتُ ، وسائرُ الأحكامِ الشرعيةِ ، لا يصحُّ حسابُها ، إلا بالأشهرِ القمريةِ ، قال تعالى :
( يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ ، قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ |) .
عباد الله :
لنشكرَ اللهَ تعالى ، على ما هدانا ، وإنْ كُنَّا من قبلِهِ لمنَ الضالين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم ، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين ، أقول ماسمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم ، ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه وتوبوا اليه ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
عباد الله ،
إن الذي جعلَ لنا الأشهرَ الأربعةَ حُرُماً ، نهانا أنْ نظلمَ فيهنَّ أنفسَنا حيثُ قالَ سبحانَهُ ( مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ ، فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ )
لا تظلموا فيهنَّ أنفسَكم بالقتالِ ولا تظلموا فيهنَّ أنفسَكُم بارتكابِ الذنوبِ واقتحامِ المعاصي والآثامِ فإنَّ اللهَ إذا حرَّمَ زمانا أو مكانا
ضاعفَ عقوبةَ الذنبِ فيهِ وضاعفَ أجرَ العملِ الصالحِ فيهِ
روى بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما في تفسيرِ ذلكَ قال : إختصَّ اللهُ تعالى أربعةَ أشهرٍ جعلهنَّ حُرُما وعظمَ حُرمَاتِهِنَّ
وجعلَ الذنبَ فيها أعظمَ وجعلَ العملَ الصالحَ والأجرَ أعظمَ وخصَّ الأربعةَ الحُرُمَ بالذكرِ ونهى عن الظلمِ فيها تشريفا لها وإنْ كانَ منهيٌّ عنهُ في كل الزمانِ قال رضي اللهُ عنهُ فلا تظلموا فيهن أنفسكم في الإثني عشر شهرا
عباد الله :
فلا تظلموا فيهنَّ أنفسَكُم بظلمِ غيرِكُم قالَ اللهُ تعالى في الحديثِ القدسيِّ ياعبادي إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكُم محرماً
فلا تظالموا ولئنْ كانَ ظلمُ النفسِ محرماً في كلِّ حينٍ ، فهو في الأشهُرِ الحُرُمِ أشدُّ حرمةً ، ولئن كانَ قتلُ الأبرياءِ ، وسفكُ الدماءِ ،
والتفجيرُ والتدميرُ ، محرماً في كلِّ شهرٍ ، فهو في الأشهرِ الحُرُمِ أشدُّ حُرْماً ، وأعظمُ جُرماً ، ولئن حرَّمَ اللهُ القتالَ فيها ، إلا أنَّ ظُلمَ النفسِ ، أعمُّ مدلولاً ، وأشملُ معنى ، فاتقوا الله عباد الله ،
أيها الشباب :
ياسواعدَ الأمةِ ، يا بُناةَ المجدِ ، ياأتباعَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ،
كم مِنْ حاقدٍ حاسدٍ ، مُفسدٍ فاسدٍ ، لنعمةِ اللهِ جاحدٌ ، لا يهنأهُ العيشُ ،
ولا يطيبُ له النومُ ، وهو يرى قوةَ ترابُطِنا ، وسعةَ رزقِنا ، وطيبَ عيشِنا ، واستتبابَ أمنِنا ، يسعى لأنْ يضربَ القلوبَ ببعضِها ،
والأيدي ببعضِها ، جُبلَ على الشرِّ واختصلَ بالخيانةِ
أنتم المستهدفونَ أيها الشبابُ ، فاللهَ اللهَ بالحفاظِ على عقيدتِكم ،
وعلى قلوبِكم وعقولِكم ، من أنْ تُدنسَها المناهجُ الهدامةُ ، والمسالكُ المنحرفةُ ، إن ألقيتْ عليكم شبهةً
فادرأوا الشُبهَ ، بسؤالِ الراسخينَ من أهلِ العلمِ ، ممن يُقدِّرونَ مصالحَ الأمةِ ويعلمونَ مقاصدَ الشريعةِ الغراءِ وفقنا الله وإياكم
وهدانا وهداكم ، لطريق الفضيلة والرشاد ،
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين وأن ينصر إخواننا أهل السنة والجماعة في كل مكان وأن ينشر دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )
المفضلات