خطبة جمعة
بعنوان
( حقيقة المال )
كتبها / عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
أيها المسلمون :
غريزةُ حبِّ المالِ ، وغريزةُ حبِّ التملكِ ، قدْ خلَقَها اللهُ سبحانَهُ وتعالى وأودَعَها في الإنسانِ لتدفَعَهُ إلى العملِ ، لتدفعَهُ إلى الجدِّ والاجتهادِ ، والسعيِ في مناكبِ الدنيا ، كي لا يكونَ عالةً على غيرِهِ ، لأنَّ البطالةَ مذمومةٌ في الإسلامِ روى البخاريُّ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّم أنّه قال (( ما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرٌ من أن يأكلَ من عملِ يده ))
فحبُّ المالِ فطرةٌ إنسانيةٌ ، وجبلةٌ بشريةٌ ، لم ينكرْها الإسلامُ ، ولم يغيرْها ، ولم ينبذْها ، بل أقرَّها وأكدَها من خلالِ قسمِ اللهِ سبحانه وتعالى بالعاديات ( إنَّ الإنسانَ لربِّهِ لكنود ، وإنَّهُ على ذلكَ لشهيد ، وإنهُ لحبِّ الخيرِ لشديد (، وقوله تعالى ( وتحبونَ المالَ حُبًّا جمًّا )
فالمَيلُ إلى جمعِ المالِ وتحصيلِهِ ، فطرةٌ إنسانيةٌ ، وجبلةٌ بشريةٌ ، ولكنَّ هذهِ الفطرةَ لو تُركتْ بدونِ تهذيبٍ وترتيبٍ ، لانحرفتْ بالإنسانِ في مهالكِ الجَمْعِ والإنفاقِ ، والإنسانُ إذا انحرفَ عن شرعِ اللهِ في تحصيلِ المالِ وإنمائِهِ وإنفاقِهِ وصرفِهِ وتوجيهِهِ واتبعَ هواهُ وأخلدَ إلى غريزتِهِ ، دمَّرَ نفسَهُ ودمَّرَ الآخرينَ ، وأَفسدَ دنياهُ ، وخَسرَ آخرتَهُ ، فتراهُ ينهبُ أثباجَ الجَمْعِ دونَ تورُّعٍ ، فيجمعُ المالَ من حلهِ وحرمتِهِ ، يأكلُ مالَ هذا ، ويظلمُ ذلكَ ، ويستغلُ حاجةَ ذاكَ ، ويسلكُ طرقَ الربا ، وينتهجُ الإبتزازَ ، وينهبُ ويكذبُ ويحتالُ ، ساعةً بالغشِّ وساعةً بالرشوةِ وساعةً بالسؤالِ ، همُّهُ الجمعُ والتكديسُ ، ثمَّ إذا تجافى الإنسانُ عن الشريعةِ في الإنفاقِ ، ألفيتُهُ يشطُّ شططاً عجيباً ، إما أن يُسرفَ ويبذرَ ، حتى تحيقَ بهِ الديونُ وترهقُهُ الإلتزاماتُ ، وإمَّا أنْ يشحَّ ويبخلَ على نفسِهِ وعيالِهِ وأسرتِهِ ، فربما كانَ مِنْ أغنى الناسِ ، والفقراءُ والمساكينُ ، يلبسونَ أحسنَ مِن ثوبِهِ ، ويركبونَ أفضلَ من سيارتِهِ ، ويأكلونَ أزكى من طعامِهِ ، بلْ ربما استعانَ بهذا المالِ على معصيةِ اللهِ ، فيُشيعُ بهِ المنكراتِ ، ويُنمِّيهِ في الموبقاتِ ، ويستثمرُهُ في المحرماتِ ، أو يجعلُهُ عونا على الفسادِ والإفسادِ وهدمِ مقوماتِ البلادِ وترويعِ العبادِ ، فيُجريهِ على جهاتٍ مشبوهةٍ ، فكيفَ يرضى المسلمُ أنْ يكونَ مالُهُ سبباً في سفكِ دماءٍ وقتلِ أبرياءٍ ، واللهُ عزَّ وجلَّ قالَ ( وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعدوان )
أيها المسلمون : وإنَّ منَ العجبِ العجابِ ، أنْ تجدَ أسبابَ الرزقِ الطيبةَ ، وسبلَ الإنفاقِ المحمودةَ ، أنْ تجدَ أبوابَها مشرعةٌ ، وطُرقَها مترعةً ، ومناكبَهَا جليةً ، جلاءَ الشمسِ في هامةِ النهارِ ، فيوقعُ الشيطانُ صاحبَ المالِ في المواطنِ المشبوهةِ ، والإستثماراتِ المحرمةِ ، التي تعبثُ بسلوكِ الفردِ والمجتمعِ ، وتقومُ على هدمِ الحياءِ ، وقتلِ الفضيلةِ ، وإشاعةِ الفاحشةِ .
أيها المسلمون : إذا عرفَ الإنسانُ كيفَ يجمعُ المالَ مِنْ حِلِّهِ ، وكيفَ ينميهِ ويزكيهِ في مَحَلِّهِ ، وكيفَ يُنفقُهُ فيما يُرضي ربَّهُ ، حصلَ على السُّمعةِ الطيبةِ والمكانةِ الفاضلةِ في الدنيا ، والمقامِ الكريمِ في الآخرةِ ، أما إذا كانَ الإنسانُ لحوحاً ، شرهاً في طلبِ المالِ ، حتى يُضيعَ الآخرةَ بسببِ الدنيا ، ولن يحصُلَ الإنسانُ إلا على ما قسمَهُ اللهُ لهُ ، فغريزةُ حُبِّ المالِ إذا لم تُهذبْ تجعلُ الإنسانَ مضطرباً في حالتي الفقرِ والغنى ، يقولُ تعالى (إنَّ الإنسانَ خُلق هلوعا إذا مسهُ الشرُّ جزوعاً وإذا مسهُ الخيرُ منوعا إلا المصلين ) وإذا اغتنى أصابَهُ الغرورُ والطغيانُ ، يقول تعالى (كلا إن الإنسانَ ليطغى أن رآهُ استغنى) ، فجاءتْ رسالةُ الإسلامِ لتحفظَ على الإنسانِ توازنَهُ ، وترفعَ عن بصرِهِ وبصيرتِهِ غشاوةَ الفتنةِ بالمالِ إذا اغتنى ، وتبعدَ عنهُ الندمَ والأسى واليأسَ والقنوطَ إذا افتقرَ ،
فالمالُ ملكٌ للهِ ، ويدُ البشرِ على المالِ يدُ استخلافٍ وتفويضٍ ، ويدُ انتفاعٍ وليست يدَ تملكٍ يقولُ تعالى ( آمنوا باللهِ ورسولِهِ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفينَ فيه) ، فلو كانت يدَ تمَلُّكٍ لما حوسبَ على مالهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ . فالإنسانُ لا يملكُ شيئاً لنفسِهِ ، ولكنها أموالٌ تُجردُ عليه يومَ القيامةِ ،
والمالُ أيها المسلمونَ : وسيلةٌ في الحياةِ الدنيا وليسَ غايةً ، فهو سبيلٌ وليسَ هدفاً ، والمقصودُ منَ المالِ بالإضافةِ إلى مصالحِ الدنيا هو الاستعانةُ بهِ على طلبِ الاخرةِ ، قال تعالى ( وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ).
لأنَّ منَ الناسِ من إستهوتهُمُ الدنيا ، وسيطرت الأموالُ على قلوبِهم ، وحسِبوا أنهم إنْ أشبعُوا غريزةَ حبِّ المالِ سعدوا في الدنيا ، وفازوا في الآخرةِ ، ولقد حدثنا القرآنُ الكريمُ عن أمثالِ هؤلاءِ وما أعدَّ اللهُ لهم من العذابِ الأليمِ فقالَ سبحانه ( ويلٌ لكلِّ هُمزةٍ لمزةٍ الذي جمعَ مالا وعددهُ يحسبُ أنَّ ماله أخلدَهُ كلا لينبذنَّ في الحطمةِ وما أدراكَ ما الحطمة نارُ اللهِ الموقدة ) هذا هو مصيرُ من رَكَنَ إلى الدنيا واغترَّ بمالِهِ ، وظنَّ أنَّ المالَ سيمُدُّ في عُمُرِهِ ، أو أنهُ ليسَ مسئولا عنهُ يومَ القيامةِ ، واللهِ أيها الناسُ ، إننا لمسؤولونَ عن هذهِ الأموالِ ، نسألُ الله لنا ولكم السلامةَ يومَ القيامةِ أعوذُ باللهِ من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ( ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر ، كلا سوف تعلمون , ثم كلا سوف تعلمون ، كلا لو تعلمون علم اليقين ، لترون الجحيم ، ثم لترونها عين اليقين ، ثم لتسألن يوئذ عن النعيم ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الثانية
أما بعدُ ايها المسلمون : فاتقوا اللهَ واعلموا أنَّ المالَ الذي بينَ أيديكم هو مالُ اللهِ ، وأنَّ اللهَ أعطاكم إياهُ لتبتغوا بهِ الدارَ الآخرةَ ، وإذا علمنا أنَّ المالَ وسيلةٌ وسبيلٌ ، وليسَ هدفاً وغايةً ، هانت علينا مصائبُ الدنيا لأنَّ معظمَ ما يصيبُ الإنسانَ في هذه الدنيا إنما هو بسببِ المالِ وتعلقهِ بهِ ، وحرصِهِ عليهِ ، وأكثرُ الخصوماتِ والعداواتِ وقضايا المحاكمِ الشرعيةِ وجرائمِ الإنسانيةِ ، يقبعُ المالُ وحُبُّ المالِ خلفَهَا ، فإذا علمنا حقيقةَ هذا المالِ تجاوزنا كلَّ الصعوباتِ ، وتخطينا كلَّ المحنِ
وما المرءُ إلا كالشهابِ وضوئِهِ
يحورُ رماداً بعدَ إذ هو ساطعُ
وما المالُ والأهلون إلا وديعةٌ
ولا بدَّ يوما أنْ تردَّ الودائعُ
ويمضونَ أرسالاً ونخلفُ بعدَهم
كما ضمَّ أخرى التالياتِ المُشايِعُ
وما الناسُ إلا عاملانِ فعاملٌ
يُتبِّرُ ما يبني وآخرُ رافعُ
فمنهم سعيدٌ آخذٌ لنصيبِهِ
ومنهم شقيٌّ بالمعيشةِ قانعُ
أليسَ ورائي إنْ تراخَتْ منيتِي
لزومُ العصا تُحنى عليها الأصابعُ
، نسألُ اللهَ أن يرزقنا المالَ من حِلِّه ويوفقنا إلى صرفِهِ في مسالكِ الخيرِ ومجاري الإحسانِ ، ونسألُ اللهَ أنْ يصرفَ عنا المالَ المحرمَ ويصرفنا عنهُ ، وأن يجعلَنا ممن يتعاونونَ على البرِ والتقوى ، والخيرِ والإحسانِ ، صلو وسلموا ..............
المفضلات