الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إنّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنْفُسِنا وسيئاتِ أعْمالِنا، منَ يهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ،ومنْ يُضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشْهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ محمداً عبْدُهُ ورسولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلنِ، والإخلاصِ له في القول والعمل ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))
أيها المسلمون / يقول الله تعالى ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ )) في هذه الآية الكريمة يبعث اللهُ الناسَ بعد موتهم يوم القيامة لِيُجازيهم على أعمالهم إنْ كان خيراً فخيراً ، وإنْ كان شراً فشراً ، وقد كتب ما قدَّموا منْ أعمال ، وآثارٍ لهذه الأعمالِ ، وكلُّ هذا في كتاب بيّن واضحٍ. فجميلٌ أنْ يتركَ المسلمُ أثراً طيباً لنفسه ولغيره سواء كان هذا الأثرُ في العبادات أو المعاملات أو الدعوة والتوجيه ، فرب كلمةٍ واحدةٍ تكون سبباً في هداية أمة ؛كَمَا في قِصّةِ أصحابِ الأخدود عندما أسلموا جميعُهم بسبب كلمةِ ذاك الغلامِ الذي قال لمن أراد قتله : إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ .
وَرُبَّ هذا الأثرُ يكون مِنْ دينار أو ثوبٍ أو صاعِ بُرٍّ ، كما في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه ، قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " قَالَ :فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ "وربما كان الأثر بخُطىً دائمةٍ إلى بيت من بيوت الله لأداء فريضة الصلاة ،كما ثبت في صحيح مسلمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنْهُ ، قَالَ : خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ ، أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ : "إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ ؟" قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا بَنِي سَلِمَةَ " دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ "
فيا عبدالله أيُّ سُنّةٍ حسنة ،وأثرٍ طيب سوف تتركُهُ إذا تركتَ هذه الدنيا ورحلتَ منها ؛ وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَما في حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " والحديث صححه الألباني .
وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم
وربما كان الأثر الذي يخلد ذكراك عملاً بسيطاً وافق إخلاصاً منك لله عز وجل بهذا العمل ، ولو كان بطلاقة وجه ضاحك مستبشر أو ابتسامةٍ تفتح قلباً ليندفع إلى عمل صالح ، فَعَنْ أبِي ذرٍّ رضي الله عنه، قالَ: قالَ لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْروفِ شَيْئًا، وَلَوْ أنْ تَلْقَى أخاكَ بِوَجْهٍ طَلْق" رواه مسلم ، وقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَة " فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على الأثر الطيب الذي تتركونه بعد موتكم لتنعموا بعظيم الأجر من ربكم ، جعلكم وإيانا مفاتيح خيرٍ مغاليقَ شرٍّ ، أقولُ قَوْلِي هَذا، واسْتغفرِ اللهُ لِي وَلَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحْسانهِ، والشكرُ لهُ على تَوْفِيقهِ وامْتنانِهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ الله وحدَه لا شريكَ لهُ تَعظيمًا لِشَأْنِهِ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمّدًا عَبْدُه ورسولُه الدّاعِي إلى رِضْوانِهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ، وَسَلّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.
عبادَ الله /قد يُرزق الإنسانُ عُمَراً مَدِيدا ، ومالاً عَديداً، يَمُوتُ يوم يموتُ بِلا أثَرٍ يذكر، أوعملٍ عليه يشكر، وهذا منَ الحرمانِ والـخُسران ، وقد يعيش بعضُهم عُمُراً قصيراً ،ويرحلُ بأثر طيِّبٍ يـُخَلِّدُ ذكراه ؛كما في جيل بعض الصحابة ومن تبعهم ولقد رأينا الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم كما في الحديث الصحيح يَذْكرُ لِبعض هؤلاء النفر الكرام أثرَهُم الذي به يُعرفون ، فيقولُ صلّى الله عليه وسلّم : " أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي أَبُو بكر، وأشدُّها حَيَاءً عُثْمَان، وأعلَمُهَا بالحلال وَالْحرَام معَاذُ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله تَعَالَى أُبَيُّ، وأعلَمُهَا بالفرائض زيدٌ، وَلكُل أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هَذِه الأُمّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بن الْجراح "
اللّهم اجْعلنا مِمّنْ طابَ ذِكْرُهُم ،وحَسُنَتْ سِيرَتُهُم ، وَخَلُصَ عَمَلُهُم ، وَاسْتَمَرَّ أجْرُهُمْ فِي حَياتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِم، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ (( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا )) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رَوَاهُ مُسْلِم .
المفضلات