الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ مُـحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً .
أَمَّا بَعْدُ : أيُّهَا النّاسُ / أُوصِيكُم ونَفْسِي بِتَقْوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))
أَيُّهَاْ الْمُـسْلِمُونَ / رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيِحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ ، قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ ، قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ "
أَيُّهَاْ الْمُـسْلِمُونَ / فِي هَذا الْـحَدِيِثِ يُبَيِّنُ رَسُولُنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَضاً يَرِدُ عَلَى القُلُوبِ, وَعَمَلاً يَسْتَوْجِبُ غَضَبَ عَلَّامِ الْغُيوبِ, عَمَلٌ مُحْبِطٌ لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ , وَمُضَيِّعٌ ثَوَابَهَا، وَمُسَبِّبٌ لِمَقْتٍ اللّهِ تَعَالَى !إِنَّهُ الرِّيَاءُ الَّذِي هُوَ إِظْهَارُ العِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيَحْمَدُونَ صَاحِبَهَا; وَهُوَ الشَّهْوَةُ الخَفِيَّةُ الَّتِي يَقُودُ إِلَيْهَا مَحَبَّةُ مَدْحِ النَّاسِ; وَالبَحْثُ عَنْ المَنْزَلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ, قَالَ اللّه تَعَالَى ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً )) وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ" قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:" الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً " رَوْاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
أَيُّهَاْ الْمُـسْلِمُونَ / لَقَدْ بَيَّنَ الشَّرْعُ الحَكِيمُ صُوَرًا وَأَنْوَاعًا لِلرِّيَاءِ مِنْهَا: الرِّيَاءُ فِي الدِّينِ بِالبَدَنِ، وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ النُّحُولِ وَالصَّفَارِ لِلْغَيْرِ لِيُبَّيِّنَ لِلنَّاسِ شِدَّةَ اجْتِهَادِهِ وَعِظَمَ حُزْنِهِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَغَلَبَةَ خَوْفِهِ مِنَ الآخِرَةُ ، وَمِنْهَا: الرِّيَاءُ بِالهَيْئَةِ وَذَلِكَ بِتَشْعِيِثِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَإِبْقَاءِ أَثَرِ السُّجُودِ عَلَى الوَجْهِ ، وَغِلْظِ الثِّيَابِ ،وَتَقْصِيرِ الأَكْمَامِ ،وَرِثَّةِ الثَّوْبِ،
وَمِنْهَا: الرِّيَاءُ بِالقَوْلِ ،كَالوَعْظِ، وَالتَّذْكِيرِ، وَالنُّطْقِ بِالحِكْمَةِ، وَحِفْظِ الأَخْبَارِ وَالآثَارِ! لِإِظْهَارِ غَزَارَةِ عِلْمِهِ; بَلْ رُبَّمَا عَمَدَ إِلَى تَحْرِيكِ شَفَتَيْهِ بِالذِّكْرِ فِي مَحْضَرِ النَّاسِ, وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ المُنْكَرِ أَمَامَهِمْ، وَمِنْهَا: الرِّيَاءُ بِالعَمَلِ ،كَمُرَاءَاةِ الْـمـُصَلِّي بِطُولِ القِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَمِنْهَا: رِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا بِالبَدَنِ ، وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ السِّمَنِ ،وَصَفَاءِ اللَّوْنِ، وَاِعْتِدَالِ القَامَةِ ،وَنَظَافَةِ الْبَدَنِ ،وَقُوَّةِ الأَعْضَاءِ، وَرِيَاؤُهُم بِالهَيْئَةِ وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ الثِّيَابِ النَّفِيسَةِ وَالمَرَاكِبِ الرَّفِيعَةِ ، وَرِيَاؤُهُم بِالقَوْلِ، وَذَلِكَ بِحِفْظِ الأَشْعَارِ وَالأَمْثَالِ, وَالتَّفَاصُحِ بِالعِبَارَاتِ ، وَرِيَاؤُهُم بِالعَمَلِ وَذَلِكَ بِالتَّبَخْتُرِ ،وَالاِخْتِيَالِ لِيُظْهِرَ جَاهَهُ وَحِشْمَتَهُ .
وَكُلُّ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ لِبَنِي الإِنْسَانِ! لِيَتَحَقَّق فِيهِ قولُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْحــَدِيثِ الْقُدْسِيِّ " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " رَواهُ مُسْلِم
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ الرِّيَاءِ، وَعَلِّمْنَا مَا جَهِلْنَا ،وَانْفَعْنَا بِـمَا عَلَّمْتَنَا ،وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِـمَا عَلَّمْتَنَا ،وَارْزُقْنَا الإِخْلاَصَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَاربَّ الْعَالَمِين . باركَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الكتابِ والسُّنة، وَنَفَعنا بِما فِيهِما مِنَ الآياتِ وَالْحِكْمَةِ ،أقولُ قَوْلِي هَذا، واسْتغفرِ اللهُ لِي وَلَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيم
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً ، أمّا بَعْدُ :
عِبَادَ اللهِ / رَوَى ابْنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ؟ " قَالَ : قُلْنَا بَلَى ، فَقَالَ : "الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ "
وَلِذَلِكَ حَرِصَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِمْ مِمَّا حَبَّاهُمْ اللهُ بِهِ مِنْ العِلْمِ وَ الدِّيَانَةُ ، وَمَعَ ذَلِكَ حَرِصُوا عَلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيِدِ بِإِخْلَاصِ العَمَلِ لِلّهِ تَعَالَى وَالبُعْدِ عَنْ الرِّيَاءِ ، قَالَ مُـحَمَّدُ بْنُ وَاسِع: لَقَدْ أَدْرَكْتُ رِجَالا كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ رَأْسُهُ وَرَأْسُ امْرَأَتِهِ عَلَى وِسَادٍ وَاحِدٍ قَدْ بَلَّ مَا تَحْتَ خَدِّهِ مِنْ دُمُوعِهِ لا تَشْعُرُ بِهِ امْرَأَتُهُ ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْتُ رِجَالا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ فِي الصَّفِّ فَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ لا يَشْعُرُ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ.
فَاتَّقَوْا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاُخْلِصُوا العَمَلَ لِلّهِ ، وَاِحْذَرُوا الرِّيَاءَ, وَعَالِـجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْهُ بِمَا أَرْشَدَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قال أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ" فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ "
رَوْاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ.
، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ ، فَقَالَ (( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا )) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رَوَاهُ مُسْلِم .
المفضلات