الخطبة الأولى : فتنة غلاء الأسعار

الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ. وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مَثيلَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرَّةَ أعينِنَا محمّدًا عبدهُ ورسولهُ وصفيُّه وحبيبُه من بعثه الله رحمة للعالمين هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا، بلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونَصَحَ الأمَّةَ فَجَزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جَزَى نَبِيًّا مِنْ أنْبِيائِهِ صلَّى اللهُ عليهِ صلاةً يَقْضي بِها حاجاتِنَا ويُفَرِّجُ بِها كُرُباتِنَا ويَكفِينَا بِها شَرَّ أعدائِنَا، وسَلَّمَ عليْهِ وعلى آلِهِ سَلامًا كَثيرًا.
أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ أوصِي نفسِي وأوصيكُم بتقوَى اللهِ العليّ العظيمِ.
واعلموا أنّ من العقوبات التي يسلطها الله على بعض خلقه ويرسلها عليهم غلاءَ الأسعار وارتفاعَ قيم الأشياء وزيادتَها عن المعتاد، ولأجل ذلك كان النبي يدعو على المشركين بغلاء الأسعار وقحط الأمطار كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري رحمه الله أن من دعاء النبي في القنوت: ((اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم سنين كسني يوسف))، قال العلماء كما في عمدة القاري (14/204): "اشدد وطأتك عليهم بالهزيمة والزلزلة وغير ذلك من الشدائد كالغلاء العظيم والموت الذريع ونحوهما، والمراد بالسنين جمعُ سنةٍ وهي الغلاء".
وإنه لا يخفى ـ يا عباد الله ـ ما يعانيه الناس في هذه الأيام من استعار الأسعار واشتعالها وغلاء الأثمان وارتفاعِها، حتى غدا بعض الفقراء والمعدمين لا يستطيعون الحصول على الأشياء الضرورية إلا بمشقة فادحة. فما أسبابُ ارتفاع الأسعار؟ وما الموقفُ الصحيحُ حيالَ ذلك؟
إنه قد يكون وراء ذلك أسباب اقتصادية أو أسباب أخلاقية أو غيرُها من الأسباب، إلا أن السبب الأعظم الذي تنتج عنه الشدائد والمصائب ـ ومنها القحطُ والغلاء والفتنُ والبلاء ـ هو معصية الله عز وجل والبعد عن طاعته، كما قال الله تبارك وتعالى:
( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، وقال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165]، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
وبعد أن عرفنا هذه النصوص الكريمة فكيف يستغرب الغلاء وأصناف الأطعمة تجمع في المناسبات فوق الحاجة ثم يكون مصيرها إلى النفايات والمزابل؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد كثر الربا والمعاملاتُ الماليةُ المحرمة؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد ضيعت الصلاة وتركت الزكاة وشربت الخمور وقطّعت الأرحام وكثر الزنا وانتشرت الموسيقى والمعازف وكثر الجهل وتُرك الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر؟!
إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وإن لنا في سير الغابرين عبرةً وذكرى، فهؤلاء آل فرعون ابتلاهم الله بالسنين والمجاعات ونقصِ الثمرات لعلهم يذكرون، لكنهم عصوا واستمروا في طغيانهم يعمهون، فأرسل الله عليهم الطوفان الذي يغرق أشجارهم، والجراد الذي يأكل ثمارهم، والقمّل الذي يؤذيهم ويزعجهم، والضفادع التي تملأ أوعيتهم ويجدونها على فرشهم وملابِسهم، والدم فإذا أراد أحدهم أن يشرب ماءً انقلب دمًا، فلا يشربون إلا دمًا ولا يطبخون إلا في دم، ولم يزجرهم ذلك عن معصية الله، بل استكبروا في الأرض وكانوا قومًا مجرمين، فانتقم الله منهم وأغرقهم في اليم بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين.
وهؤلاء قوم سبأ في اليمن أنعم الله عليهم بالأرزاق الكثيرة، وساق عليهم النعم الوفيرة، وجعل لهم جنتين عظيمتين يأكلون من ثمارهما المتنوعة من غير كدّ ولا تعب، يقول قتادة رحمه الله: "كانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها زنبيل فيتساقط الثمر في الزنبيل حتى يمتلئ من غير أن تحتاج إلى قطفه؛ وذلك لكثرته ونضجه واستوائه"، لكنهم أعرضوا وكفروا بأنعم الله فانتقم الله منهم وأرسل عليهم سيلاً عَرِمًا شديدًا، فبدل الثمار النضيجة والمناظر الحسنة بشجرٍ كثير الشوك قليل الثمر، ومزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث للناس، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[لقمان: 31].
عباد الله ، اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أول ما يُدفع به الغلاء ويرفع به البلاء هو التوبة إلى الله عز وجل، فإنه ما رفع بلاء إلا بتوبة، وإن التوبة هي سبب نزول البركات كما أن المعاصي هي سبب القحط والغلاء، كما قال الله سبحانه:
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الأعراف: 96]، وإنا مقبلون في أحد الأشهر الحرم ،فيه تقبل فيه الطاعات وتقال فيه العثراتُ، فليراجع كل منا نفسهَ، وليحاسبها على تقصيرها، ولينزع عما هو فيه من الغفلة، وليعلم أنه مقبل على رب كريم ودودٍ رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وعمت كل حي، يقول لعباده متحببًا إليهم: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
ثم إنه ـ يا عباد الله ـ يجب التعاون والتكافل في ظلّ غلاء الأسعار، ورحمةُ اليتامى والأراملِ والفقراءِ والضعفاء، فالغني في دين الإسلام يحمل الفقير، والقوي يحمل الضعيف، ويخفف معاناتَه وآلامَه، والصدقةُ يعظم ثوابها في أوقات الحاجات، كما يعظم ثوابها في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة.
كما أنه يجب الاقتصادُ في النفقة، وعدمُ الإسرافِ والتبذير، وعدمُ البخل والتقصير، كما قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]، وكان من دعاء النبي : ((وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى).
وليحذر التجار من الجشع والطمع والأنانية، وليرحموا الفقراء والمعوزين، وليجعلوا غلاء الأسعار فرصةً للإحسان إلى الناس، وسيجدون بركةَ ذلك ـ إن شاء الله ـ في أموالهم وأحوالهم، وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله : ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يُقعده بعَظمٍ من النار يوم القيامة)) يعني: يقعده في مكان عظيمٍ منها، وهذا وعيد شديد وزجر أكيد عن إغلاء الأسعار ورفِعها؛ لأن من مقاصد الشريعة المطهرة في البيع والشراء أن تسير الأسعار في طريق تحصل به مصلحةُ التجار ومصلحةُ بقية الناس، من غير إضْرارٍ بأحدٍ على حساب الآخر، وهذا من عدل الشريعة ومراعاتها لجلب المصالح ودرء المفاسد.
كما أنه ينبغي مخاطبة المسؤولين في هذه البلاد وتذكيرُهم بحقوق الرعية ومناصحتُهم، كما قال في حديث تميم الداري عن رسول الله : ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال : ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)
هذه سنة الله في الأمم السابقة، ليس بينه وبين أحدٍ من عباده نسب إلا بطاعته، فالكريم عنده من أطاعه واتقاه، والذليل من أعرض عنه وعصاه، فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون، واحذروا من أسباب سخطه وعقابه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله، منذ أسبوعيْن امتدّت أياديكم الكريمة لمساعدة أحد إخوانكم المحتاجين لإجراء عمليّة جراحيّة لفائدة ابنته، وقد كانت مساهماتكم قيّمة ومن شأنها التخفيف عنها حين الفحوصات الطبية، وقد وصله ما تمّ جمعه بالتمام والكمال والله على ما أقول شهيد.جعل الله عملكم في ميزان حسناتكم في الدنيا والآخرة وأخرجكم الله من كلّ ضائقة ونفع الله بكم العباد والبلاد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

















الخطبة الثانية : واجبنا نحو التربية والتعليم

الحمد لله الذي هَدانا بالكتاب والسُنّة، وأخذَ عَلَينا ميثاقَ الاقْتِداء بما فَعَلَه رسولُ اللهِ و سَنَّهُ، وأحلّنا بإتّباع أعْلَم العالِمين مَحلاّ مُنيفًا، وشَرّفَنا باتِّباع سنّته تشريفًا، نَحمده تعالى ونشكره ونستعينه سبحانه ونستغفره، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ارتضى لنا الإسلام دينًا، وبعثَ فينا رسولاً أمينًا، وأشهد أنَّ سيّدَنا ومَولانا وحبَيبَنا محمدًا أشرفُ العالمين.
اللّهم صلّ وسلم وبَارك على هذا النّبي الزكيِّ، أطهرِ الخَلق وأعْظَمِهم أجمعين.
أما بعد : عباد الله فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فإن تقوى الله جل جلاله هي الحصن الحصين الحافظ من غوائل الفتن والشرور، ما ظهر منها وما بطن، وهي التي تنير لك الطريق المستقيم الذي ينجو من سلكه، ويفوز من انتهجه، ولكن التقوى أخي المسلم لا تتم ولا تتأسس قواعدها إلا بالعلم النافع الموروث عن الرسول المبعوث بالهدى والرحمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الذي حث أمته على تعلم العلم النافع وتفهمه والعمل به.

معاشر المسلمين : لقد أرشدنا القرآن الكريم مبيناً لنا أن العلم هو الأساس للعمل، وأنه لابد أن يتقدم عليه حتى يكون العمل مبْنِياً على أصل من الشرع المبين، وعلى خير من هدى الله المستقيم. يقول الحق جل وعلا : {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}(محمد : 19) فأمر سبحانه بالعلم أولا بقوله : {فاعلم} ثم ذكر العمل بعده، بقوله : {واستغفر لذنبك} إذ الاستغفار نوع من العمل الذي يصفه العلم ويأمر به، والآية فيها دلالة واضحة على شرف العلم ومنزلته وأهميته.
عباد الله ، لقد انتشر العلم والتعلم في هذه الأزمنة بفضل الله تعالى، انتشاراً واسعاً في أغلب البلدان وفي بلادنا أيضا، وقد تعددت المدارس والمعاهد والجامعات ، ويقوم على التدريس فيها أساتذة ومعلمون وأطر تربوية وإدارية أفاضل يُدرِّسون مختلف التخصصات العلمية، على مناهج سليمة في أغلبها، والحمد لله على ذلك،
إلا أن البعض منهم قد لا يقوم بواجبه كما يحب الله ويرضى وقد يركز في تدريسه على المادة العلمية فقط دون الاهتمام بتربية الطفل والشاب المسلم ، إذ تقوم تربيته على تهذيب الأخلاق والسلوك وتقوية الأرواح والهمم، وغرس العزة والكرامة في النفوس، وإن العلوم المدرسية شرعية كانت أم مما يحتاج إليها المجتمع من العلوم الأخرى، لابد لها أن تحاط بسياج قوي من العمل بالأوامر الإلهية، والتوجيهات النبوية، والتحلي بالأمانة والصدق والإخلاص، والتخلق بأخلاق القرآن الكريم، والشمائل النبوية، وينبغي حث التلاميذ والطلاب على الاتصاف بهذه الصفات التي هي من مكارم الأخلاق وما اشتملت عليه من الحِلْم والصبر والتحمل والبعد عن الصفات الذميمة والابتلاءات والبلايا التي ابتلي بها اليوم كثير من الشباب كالقول الفاحش والتبرج والسفور والتعاطي لبعض الآفات الخطيرة.
وإن المار أمام مؤسسة تعليمية يرى بأم عينيه ما يندى له الجبين ويدمي القلب من استهتار بالقيم الأخلاقية وضياع للوقت الثمين ،نسأل الله السلامة والعافية.
أيها المسلمون : إن من واجب المدرس أن يقوم بتربية تلاميذه وطلابه وتعليمهم لهذه الأخلاق والاتصاف بها مُصَاحِبةً لتعليم المواد المقررة، لأن وظيفة المعلم هي التربية والتعليم انطلاقاً من اسم الوزارة التي يعمل بها وهي وزارة التربية ، فإن التربية تصاحب هذه المواد وتلازمها وهي مكملة لها. فالتربية أولا ثم التعليم ثانيا لأن التربية من لوازم العلم.
عباد الله ، إنّ من أهمّ واجبات المدرّس العمل على نشر الأخلاق الفاضلة الكريمة والصبر والتحمل للأمانة والشفقة على الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذا من تمام النُّصْح للخَلْق بطريقة الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والدعوة بالتي هي أحسن، والبعد عن الإثارة وجرح الشعور، فإن ذلك أدعى للقبول وأقرب إلى التأثر والقبول من الناصح.
قال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : {ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(آل عمران : 79).
وقال الصحابي الجليل معاذ بن جبل مرفوعا للنبي :
(تعلّموا العلم،فإنّ تعلّمه لله خشية، وطلبه عبادة،ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة).
نسأل الله العزيز الرحيم أن ينفع أبناءنا بما يتعلّمون وأن ييسّر لهم سبل النجاح والتفوّق، كما نسأله سبحانه أن يحفظهم من كل سوء ومن خلطاء السوء ومن أصحاب السوء إنّه سميع قريب مجيب.