خطبة جمعة
بعنوان
( مدرسة الصيام )
كتبها / عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمد لله أحمده حمدا كثيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، صلـى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ عبادَ اللهِ : فأوصيكُم ونفسي بتقوى اللهِ القائلِ ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِهِ ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون )
أيها المسلمون : عن أبى هريرةَ رضى اللهُ عنه أنَ النبىَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ قالَ ( للصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فطرِهِ ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّه)
أيها الإخوةُ المسلمونَ : ما ظنُّكُم بهذهِ الفرحةِ ، فرحةِ المؤمنِ عندَ فطرِهِ ، هل هي فرحةُ أكلٍ وشربٍ ، هل فَرِحَ حينما فُسحَ لهُ المجالُ بعدَ أنْ كانَ مقيداً ، لو أنَّ المؤمنَ تعمَّدَ وأكلَ أو شربَ بدونِ عذرٍ شرعيٍّ ، قبلَ المغربِ بعشرِ دقائقَ فقط ، هل تحصُلُ لهُ هذه الفرحةُ ؟ لا واللهِ لنْ تحصُلَ لهُ ، إنما يشعرُ بالضيقَ والأسى والحسرةَ ، فما هو سِرُّ تلكَ الفرحةِ يا تُرى ؟ إنَّ تلكَ الفرحةَ أيها المسلمونَ ، هي فرحةُ الإنتصارِ على النفسِ ، والتفوقُ على الهوى ، والفوزُ بالأجرِ ، إنها لذةُ الطاعةِ ، وإتمامُ الصيامِ ، إنها نشوةُ الإنتصارِ على عدوِّ اللهِ الشيطانِ ، إنها وإيمَ اللهِ الوقوفُ على قمَّةِ العبوديةِ وشرفِ الإنتماءِ للإسلامِ ، إنها أسمى معاني الإستسلامِ ، شرفٌ وعزةٌ ، أيْ واللهِ أيها المسلمونَ ، شرفٌ لا يُدانيهِ شرفٌ ، أنْ تجلسَ أمامَ ما لذَّ وطابَ ، من طعامٍ وشرابٍ ، ثم تنتظرُ أنْ يَأذنَ اللهُ لكَ بذلكَ ، إرفعْ رأسكَ بينَ الورى ، وامشُقْ قامتَكَ فوقَ الثرى ، واعلمْ أنكَ بذلكَ فضَّلَك اللهُ على الأممِ الكافرةِ ، والعقائدِ الضالةِ ، إنها السعادةُ وربُّ الناسِ ، ( الصومُ لي وأنا أجزي بهِ ) هذه العبادةُ ، إختارها اللهُ أنْ تكونَ لهُ ، وهو يجزي بها ، الحمدُ لله ، ولا إلهَ إلا اللهُ ، كم أنتَ قويٌّ أيها المسلمُ ، كم أنتَ ذو عزيمةٍ ، وصاحبُ شكيمةٍ ، تمتلكُ قوةً وإرادةً تكسرُ بها الشهواتِ ، وتقارعُ بها الملذاتِ ، أرأيتم أنَّ رمضانَ مدرسةٌ عظيمةٌ ، يقولُ تباركَ وتعالى ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) المقصودُ من الصيامِ ، وكتابةِ الصيامِ عليكمْ أيها المسلمونَ ، هو تحقيقُ التقوى ، في نفوسِكُم وفي ذواتِكُم ، ولذلك قالَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ (مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابَهُ)
أتدرونَ أيها المسلمونَ : أنَّ شهوةَ الطعامِ والشرابِ ، وعلى أنَّهُما مِن ضرورياتِ الحياةِ ، إلا أنَّهُما في أدنى الشهواتِ ، فإذا كُسرتْ هذه الشهواتُ الدنيا بالصيامِ ، خضعتْ جراءَهَا الشهواتُ الأخرى ، وانكسرتْ وتداعتْ واحدةً إثرَ واحدةٍ ،
رمضانُ أيها المسلمونَ : مدرسةٌ لكبحِ جماحِ الملذاتِ ، ومستشفى لأمراضِ القلوبِ والشهواتِ ، وشهرُ ترابُطٍ إجتماعيٍّ ، وتكاتُفٍ أسريٍّ ، رمضانُ معهدٌ كبيرٌ جدا ، يمتدُّ من شرقِ بلادِ الإسلامِ إلى غربِها ، يأخذُ فيه المسلمونَ جميعاً ، دورةً تدريبيةً ، في رفعِ روحِ المحبةِ والرحمةِ والتكاتفِ والتآلفِ ، ونبذِ الخصومةِ والعَداءِ والبغضاءِ ، شهرٌ كاملٌ يهذِّبُ النفوسَ ، ويرفعُ معاييرَ القربِ مِن اللهِ ، شهرٌ كاملٌ يتدرجُ فيه الجُهدُ كلما تدرجتْ أيامُهُ ولياليه ، كانَ عليه الصلاةُ والسلامُ كلما دخلتْ مِن رمضانَ عشرٌ ، دخلَ معهاَ بجُهدٍ آخرَ ، حتى إذا دخلتِ العشرُ الأواخرُ ، شدَّ مئزرَهُ وأيقظَ أهلَهُ ، وأحيا ليلَهُ ، واعتكفَ عليهِ الصلاةُ والسلام ُ،
أنتَ أيها المسلمُ الكريمُ ، قلبتَ صفحةً جديدةً في حياتِكَ من أولِ يومٍ في رمضانَ ، وكان أولُ سطرٍ تخطُّهُ في هذه الصفحةِ هو عزيمتَكَ الصادقةِ وإيمانَكَ واحتسابَكَ ، فظفرتَ بالأجرِ ورضى الربِّ ، غيرتَ نمطَ حياتِكَ بسهولةٍ ويسرٍ ، وأصبحَتْ تلكَ المعوقاتُ التي جعلها الشيطانُ جبالاً في حياتِكَ ، أصبحَتْ بإيمانِكَ وعزيمتِكَ كثيباً مهيلاً ، فها أنتَ لا تثريبَ عليكَ ، تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ ، وتمتلكُ إرادةً عظيمةً ، تستطيعُ بها أنْ تغيِّرَ نمطَ حياتِكَ كلِّها بعدَ رمضانَ ، أنْ تحافظَ على الصلواتِ ، وأنْ تبتعدَ عنِ المنكراتِ ، وأنْ تُسابقَ في الخيراتِ ، نحنُ أيها المسلمونَ خطاؤونَ ، مَنْ قالَ أنني لا أخطيءُ فقدْ كذَبَ ، لأنُّهُ لا عصمةَ لأحدٍ إلا مَنْ عصمَ اللهُ ، قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ (كلُّ ابنِ آدمَ خطاءٌ وخيرُ ، الخطَّائينَ التوّابونَ ) نحنُ أيها المسلمونَ مختلفونَ ، مِنا الصالحونَ ومِنا دونَ ذلكَ كُناَّ طرائقَ قِددا ، وهذهِ هيَ حالُ البشرِ قال تعالى فيهِم ( فمنهُم ظالمٌ لنفسِهِ ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيراتِ بإذنِ اللهِ )
فكلٌّ مِنَّا أيُّها المسلمونَ أعلمُ بنفسِهِ ، وكلٌّ منا أقدرُ على علاجِها من غيرِه ، لكننا في هذهِ الخُطبةِ نبينُ لكريمِ ألبابِكم ، ونواضجِ عقولِكم ، قدرتَناَ على التغييرِ ، من خلالِ صيامِ وقيامِ هذا الشهرِ الكريمِ ، فاللهُ سبحانَهُ وتعالى يعينُنا على تغييرِ حياتِنا وسلوكِنا ، وعبادتِنا واستقامتِنا ، لكنَّ هذا التغييرَ ليس ناموساً يتنزلُ ، وليسَ وهماً ولا خيالاً ولا حلماً ، إنما هو حقيقةٌ وواقعٌ ملموسٌ ، لا بدَّ له من جُهدٍ جهيدٍ ، وعملٍ سديدٍ ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )
لا تأتى الحقائقُ المُصلِحةُ ، ولا التجاراتُ المربحةُ ، ولا النتائجُ المفرحةُ ، إلا بمجاهدةِ النفسِ ومغالبةِ الهوى :
وما نيلُ المطالبِ بالتمني
ولكنْ تؤخذُ الدنيا غِلابا
، فتعلَّموا من رمضانَ ، واستفيدوا من اللحظاتِ التي تجلسُونها في بيوتِ اللهِ ، أطيلوا التأملَ في حقيقةِ هذهِ الدنيا ، وما بعدَها ، تأملوا الطريقَ الطويلةَ التي لا بُدَّ لكلِّ واحدٍ منا سلوكَهاَ ، القبرَ وما فيهِ ، والحشرَ والحسابَ والصراطَ والأهوالَ ، كلُّ هذهِ حقائقٌ وسترونَها عياناً ، فاستعدُّوا وغيِّرُوا نمطَ حياتِكم لما تَصلُحُ بهِ أُخرَاكُم .
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أما بعدُ أيها المسلمونَ : لا تزالونَ في هذهِ المدرسةِ العظيمةِ رمضانَ ، والكتابُ المقرَّرُ عليكُمْ أنْ تدرُسُوهُ وتذاكَرُوهُ في هذهِ المدرسةِ ، هو كتابُ اللهِ ، هو القرآنُ ، الذي أُنزلَ في هذا الشهرِ ، قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) في هذا الكتابِ كلُّ شيءٍ تحتاجُهُ في حياتِكَ ، كلُّ شيءٍ تحتاجُهُ في طريقِكَ إلى اللهِ ، كلُّ شيءٍ تحتاجُهُ لإصلاحِ نفسِكَ ، وتغييرِ نمطِ حياتِكَ ، كلُّ آيةٍ فيهِ تُخاطبُكَ ، آيةٌ تحثكَ وآيةٌ تحذِّرُكَ ، آيةٌ تأمُرُكَ وأخرى تنهاكَ ، سورةٌ تقصُّ عليكَ أحسنَ القَصَصِ ، وسورةٌ تعِظُكَ ، هذا كتابُكَ في هذهِ الدنيا ، لازِمْ هذا الكتابَ الكريمَ في شهرِ رمضانَ ، تدبَّرْ آياتِهِ ، وارسمْ لنفسِكَ منهجًا وطريقًا على ضوءِ توجيهاتِ اللهِ جلَّ وعلى ، وسنةِ نبيِّهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ .
صلوا وسلموا عليهِ ، صلوا على البشيرِ النذيرِ والسراجِ المنيرِ نبيكُم محمدٍ المصطفى ورسولِكُم المجتبى، فقد أمرَكم بذلكَ ربُّكُم جلَّ وعلا فقالَ في محكمِ كتابِه قولاً كريماً: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )
المفضلات