خطبة جمعة
بعنوان
(( المدرسة العظمى رمضان ))
التاسع من رمضان 1436
كتبها وضبطها
عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمد لله أحمده حمدا كثيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، صلـى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ عبادَ اللهِ : فأوصيكُم ونفسي بتقوى اللهِ القائلِ ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تقاتِهِ ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون )
أيها المسلمون : عن أبى هريرةَ رضى اللهُ عنه أنَ النبىَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ قالَ ( للصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فطرِهِ ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّه)
أيها الإخوةُ المسلمونَ : ما ظنُّكُم بهذهِ الفرحةِ ، فرحةِ المؤمنِ عندَ فطرِهِ ، هل هي فرحةُ أكلٍ وشربٍ ، هل فَرِحَ حينما فُسحَ لهُ المجالُ بعدَ أنْ كانَ مقيداً ، لو أنَّ المؤمنَ تعمَّدَ وأكلَ أو شربَ بدونِ عذرٍ شرعيٍّ ، قبلَ المغربِ بعشرِ دقائقَ فقط ، هل تحصُلُ لهُ هذه الفرحةُ ؟ لا واللهِ لنْ تحصُلَ لهُ ، إنما يشعرُ بالضيقَ والأسى والحسرةِ ، فما هو سِرُّ تلكَ الفرحةِ يا تُرى ؟ إنَّ تلكَ الفرحةَ أيها المسلمونَ ، هي فرحةُ الإنتصارِ على النفسِ ، والتفوقُ على الهوى ، والفوزُ بالأجرِ ، إنها لذةُ الطاعةِ ، وإتمامُ الصيامِ ، إنها نشوةُ الإنتصارِ على عدوِّ اللهِ الشيطانِ ، إنها وإيمَ اللهِ الوقوفُ على قمَّةِ العبوديةِ وشرفِ الإنتماءِ للإسلامِ ، إنها أسمى معاني الإستسلامِ ، شرفٌ وعزةٌ ، أيْ واللهِ أيها المسلمونَ ، شرفٌ لا يُدانيهِ شرفٌ ، أنْ تجلسَ أمامَ ما لذَّ وطابَ ، من طعامٍ وشرابٍ ، ثم تنتظرُ أنْ يَأذنَ اللهُ لكَ بذلكَ ، إرفعْ رأسكَ بينَ الورى ، وامشُقْ قامتَكَ فوقَ الثرى ، واعلمْ أنكَ بذلكَ فضَّلَك اللهُ على الأممِ الكافرةِ ، والعقائدِ الضالةِ ، إنها السعادةُ وربُّ الناسِ ، ( الصومُ لي وأنا أجزي بهِ ) هذه العبادةُ ، إختارها اللهُ أنْ تكونَ لهُ ، وهو يجزي بها ، الحمدُ لله ، ولا إلهَ إلا اللهُ ، كم أنتَ قويٌّ أيها المسلمُ ، كم أنتَ ذو عزيمةٍ ، وصاحبُ شكيمةٍ ، تمتلكُ قوةً وإرادةً تكسرُ بها الشهواتِ ، وتقارعُ بها الملذاتِ ، أرأيتم أنَّ رمضانَ مدرسةٌ عظيمةٌ ، يقولُ تباركَ وتعالى ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) المقصودُ من الصيامِ ، وكتابةِ الصيامِ عليكمْ أيها المسلمونَ ، هو تحقيقُ التقوى ، في نفوسِكُم وفي ذواتِكُم ، ولذلك قالَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ (مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابَهُ)
أتدرونَ أيها المسلمونَ : أنَّ شهوةَ الطعامِ والشرابِ ، وعلى أنَّهُما مِن ضرورياتِ الحياةِ ، إلا أنَّهُما في أدنى الشهواتِ ، فإذا كُسرتْ هذه الشهواتُ الدنيا بالصيامِ ، خضعتْ جراءَهَا الشهواتُ الأخرى ، وانكسرتْ وتداعتْ واحدةً إثرَ واحدةٍ ،
رمضانُ أيها المسلمونَ : مدرسةٌ للمستفيدينَ ، ومستشفى لمرضى القلوبِ والشهواتِ ، وشهرُ ترابُطٍ إجتماعيٍّ ، وتكاتُفٍ أسريٍّ ، رمضانُ معهدٌ كبيرٌ جدا ، يمتدُّ من شرقِ بلادِ الإسلامِ إلى غربِها ، يأخذُ فيه المسلمونَ جميعاً ، دورةً تدريبيةً ، في رفعِ روحِ المحبةِ والرحمةِ والتكاتفِ والتآلفِ ، ونبذِ الخصومةِ والعَداءِ والبغضاءِ ، شهرٌ كاملٌ يهذِّبُ النفوسَ ، ويرفعُ معاييرَ القربِ مِن اللهِ ، شهرٌ كاملٌ يتدرجُ فيه الجُهدُ كلما تدرجتْ أيامُهُ ولياليه ، كانَ عليه الصلاةُ والسلامُ كلما دخلتْ مِن رمضانَ عشرٌ ، دخلَ معهاَ بجُهدٍ آخرَ ، حتى إذا دخلتِ العشرُ الأواخرُ ، شدَّ مئزرَهُ وأيقظَ أهلَهُ ، وأحيا ليلَهُ ، واعتكفَ عليهِ الصلاةُ والسلام ُ،
أنتَ أيها المسلمُ الكريمُ ، قلبتَ صفحةً جديدةً في حياتِكَ من أولِ يومٍ في رمضانَ ، وكان أولُ سطرٍ تخطُّهُ في هذه الصفحةِ هو عزيمتَكَ الصادقةِ وإيمانَكَ واحتسابَكَ ، فظفرتَ بالأجرِ ورضى الربِّ ، غيرتَ نمطَ حياتِكَ بسهولةٍ ويسرٍ ، وأصبحَتْ تلكَ المعوقاتُ التي جعلها الشيطانُ جبالاً في حياتِكَ ، أصبحَتْ بإيمانِكَ وعزيمتِكَ كثيباً مهيلاً ، فها أنتَ لا تثريبَ عليكَ ، تصومُ النهارَ وتقومُ الليلَ ، وتمتلكُ إرادةً عظيمةً ، تستطيعُ بها أنْ تغيِّرَ نمطَ حياتِكَ كلِّها بعدَ رمضانَ ، أنْ تحافظَ على الصلواتِ في أوقاتِها ، ومعَ جماعةِ المسلمينَ ، وأنْ تبتعدَ عنِ المنكراتِ ، وأنْ تُسابقَ في الخيراتِ ، نحنُ أيها المسلمونَ خطاؤونَ ، مَنْ قالَ أنني لا أخطيءُ فقدْ كذَبَ ، لأنُّهُ لا عصمةَ لأحدٍ إلا مَنْ عصمَ اللهُ ، قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ (كلُّ ابنِ آدمَ خطاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التوّابونَ ) نحنُ أيها المسلمونَ مختلفونَ ، مِنا الصالحونَ ومِنا دونَ ذلكَ كُناَّ طرائقَ قِددا ، وهذهِ هيَ حالُ البشرِ قال تعالى فيهِم ( فمنهُم ظالمٌ لنفسِهِ ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيراتِ بإذنِ اللهِ )
فكلٌّ مِنَّا أيُّها المسلمونَ أعلمُ بنفسِهِ ، وكلٌّ منا أقدرُ على علاجِها من غيرِه ، لكننا في هذهِ الخُطبةِ نبينُ لكريمِ ألبابِكم ، ونواضجِ عقولِكم ، قدرتَناَ على التغييرِ ، من خلالِ صيامِ وقيامِ هذا الشهرِ الكريمِ ، فاللهُ سبحانَهُ وتعالى يعينُنا على تغييرِ حياتِنا وسلوكِنا ، وعبادتِنا واستقامتِنا ، لكنَّ هذا التغييرَ ليس ناموساً يتنزلُ ، وليسَ وهماً ولا خيالاً ولا حلماً ، إنما هو حقيقةٌ وواقعٌ ملموسٌ ، لا بدَّ له من جُهدٍ جهيدٍ ، وعملٍ سديدٍ ، قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )
وقال الشاعرُ
وما نيلُ المطالبِ بالتمني
ولكنْ تؤخذُ الدنيا غِلابا
لا تأتى الحقائقُ المُصلِحةُ ، ولا التجاراتُ المربحةُ ، ولا النتائجُ المفرحةُ ، إلا بمجاهدةِ النفسِ ومغالبةِ الهوى ، فتعلَّموا من رمضانَ ، واستفيدوا من اللحظاتِ التي تجلسُونها في بيوتِ اللهِ ، أطيلوا التأملَ في حقيقةِ هذهِ الدنيا ، وما بعدَها ، تأملوا الطريقَ الطويلةَ التي لا بُدَّ لكلِّ واحدٍ منا سلوكَهاَ ، القبرَ وما فيهِ ، والحشرَ والحسابَ والصراطَ والأهوالَ ، كلُّ هذهِ حقائقٌ وسترونَها عياناً ، فاستعدُّوا وغيِّرُوا نمطَ حياتِكم لما تَصلُحُ بهِ أُخرَاكُم .
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أما بعدُ أيها المسلمونَ : لا تزالونَ في هذهِ المدرسةِ العظيمةِ رمضانَ ، والكتابُ المقرَّرُ عليكُمْ أنْ تدرُسُوهُ وتذاكَرُوهُ في هذهِ المدرسةِ ، هو كتابُ اللهِ ، هو القرآنُ ، الذي أُنزلَ في هذا الشهرِ ، قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) في هذا الكتابِ كلُّ شيءٍ تحتاجُهُ في حياتِكَ ، كلُّ شيءٍ تحتاجُهُ في طريقِكَ إلى اللهِ ، كلُّ شيءٍ تحتاجُهُ لإصلاحِ نفسِكَ ، وتغييرِ نمطِ حياتِكَ ، كلُّ آيةٍ فيهِ تُخاطبُكَ ، آيةٌ تحثكَ وآيةٌ تحذِّرُكَ ، آيةٌ تأمُرُكَ وأخرى تنهاكَ ، سورةٌ تقصُّ عليكَ أحسنَ القَصَصِ ، وسورةٌ تعِظُكَ ، هذا كتابُكَ في هذهِ الدنيا ، لازِمْ هذا الكتابَ الكريمَ في شهرِ رمضانَ ، تدبَّرْ آياتِهِ ، وارسمْ لنفسِكَ منهجًا وطريقًا على ضوءِ توجيهاتِ اللهِ جلَّ وعلى ، وسنةِ نبيِّهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ .
صلوا وسلموا عليهِ ، صلوا على البشيرِ النذيرِ والسراجِ المنيرِ نبيكُم محمدٍ المصطفى ورسولِكُم المجتبى، فقد أمرَكم بذلكَ ربُّكُم جلَّ وعلا فقالَ في محكمِ كتابِه قولاً كريماً: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )
المفضلات