الباب المفتوح
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ ، فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا " ، ثُمَّ قَالَ : " مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) رواه مسلم
قال ابن القيم – رحمه الله – التوبة هي أول المنازل وأوسطها وآخرها .. وهي بداية العبد ونهايته ، حاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك ، ولهذا قال الله تعالى ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))
وفي الحديث السابق إثبات صفة الفرح لله تعالى ؛ فرح يليق بعظيم جلاله وسلطانه ، ففرحه لايشبه فرح أحد من خلقه لا في ذاته ولا في أسبابه ولا في غاياته ، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين وإحسانه التي يحب من عباده أن يتعرضوا لها .
وما أجمل تلك الحكاية التي ساقها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين حيث قال : عن بعض العارفين أنه رأى في بعض السكك باب قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي , وأمه خلفه تطرده حتى خرج , فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف متفكرا , فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه , ولا من يؤويه غير والدته , فرجع مكسور القلب حزينا . فوجد الباب مغلقا، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام , وخرجت أمه , فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه , والتزمته تقبله وتبكي وتقول : يا ولدي , أين تذهب عني ؟ ومن يؤويك سواي ؟ ألم اقل لك لا تخالفني , ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ، وارادتي الخير لك ؟ ثم أخذته ودخلت .
فتأمل قول الأم ، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لما
قُدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ ، وَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ يَتَحَلَّبُ ثَدْيَاهَا , كُلَّمَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذْتُهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ )) قَالُوا : لا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ : (( وَاللَّهِ ، لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا )) متفق عليه
فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء كما قال تعالى ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ .. )) فإن تعاظمك ذنبك فتذكر قول الله تعالى ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))
وان تعاظمك ذنبك فاعلم أن النصارى قالوا في المتفرد بالكمال : ثالث ثلاثة . فقال لهم ((أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) وإن تعاظمك ذنبك فاعلم أن الطغاة الذين حرقوا المؤمنين بالنار عرضت عليهم التوبة من ربهم بقوله ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ))
اللَّهُمَّ علِّمْنا ما ينفعُنا وانفعْنا بما علَّمتَنا، وزدْنا عِلْمًا وعَمَلاً يا ذا الْجَلالِ والإكْرام ، وصلّى اللهُ على نبيّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحْبهِ أجْمَعِين .
المفضلات