الخطبة الأولى : اشتياق النبي صلى الله عليه وسلّم لأمّته
الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأستغفره وأستهديه ، وأومن به ولا أكفره،وأعادي من يكفر به ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرّسل ، وقلّة من العلم وضلالة من النّاس وانقطاع من الزّمان، ودنوّ من السّاعة ، وقرب من الأجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى وفرّط وضلّ ضلالا بعيدا .وإنّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله ، واحذروا ما حذّركم الله من نفسه فإنّ تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه ، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة .
أمّا بعد عباد الله ، فرغم انقضاء أكثر من 14 قرنا عن انتقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم للرّفيق الأعلى ، فإنّ أمّة الإسلام لم تخل من أولياء ربانيين، وشهداء وصالحين، وعلماء مربين ناصحين، وقائمين لله بالقسط من خيار أمة محمد لا يخلو منهم زمان ولا مكان، رغم بُعدِ الزمان وطول العهد، وهؤلاء حنَّ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتاق لرؤيتهم واعتبرهم إخوانا له، وتمنى اللقاء بهم، وبشرّهم بأنه سيسبقهم إلى حوضه وينتظرهم هناك ليسقيَهم منه، كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ذات يوم يزورون المقبرة فقال لهم : ""وددت أنا قد رأينا إخواَنَنَا"، قالوا: أولسنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال : "بل أنتم أصحابي، وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعدُ"، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال : "أرأيت لو أن رجلا له خيل غُرٌّ مُحَجَّلةٌ بين ظهري خيل دُهمٍ بهمٍ ألا يعرف خيله"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فإنهم يأتون غُرّاً مُحَجَّلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض"" – البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث المبشر أخبر الحبيب الأعظم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أن له في آخر الزمان إخوانا من بعده، ليسوا أنبياء لأن النبوة به خُتِمت، وليس فيها نفي لأخُوةِ الصحابة لرسول الله، ولكن الرسول ذَكَرَ مرتبتهم الزائدة بالصحبة، فهؤلاء إخوةٌ صحابة، والذين لم يأتوا بعد، إخوةٌ ليسو بصحابة، ولكن لهم فضل بما آمنوا به ولم يروه، وبالتعلق القلبي والمحبة الخالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء الكامل، والشوق الزائد المتوقد، والإيمان المتجدد، ولهم فضل بما صبروا على غربة الإسلام، وعلى شدة و كيد أعداء الإسلام على أهل الإيمان.
-"ناس أخيار يأتون من بعده صلى الله عليه وسلم، أنزلهم منزلة الإخوان، في مرتبة تحاذي مرتبة الصحابة وتقاربها، هم ناس يحبون الله ورسوله المحبة المزدوجة التي هي بمثابة الجناحين لمن أهَّلَه الله للتحليق في ذلك الأفق" .
إن السابقين الأولين سابقون مُقربون، والمؤمنون اللاحقون إخوان مُحبون مشتاقون، وكلُّهم على خير عظيم، لأنهم عاشوا للإسلام لا لأنفسهم، ولأنهم أحبوا رسول الله وتفانوا في حبه واتبعوا هديه ونشروا ونصروا دينه، وصبروا على ما يلقونه في سبيل ذلك.
لكن ليس كل من هب ودب وقال أنا من إخوان الرسول، يدخل هنا، بل هم الذين اشتاق إلى رؤيتهم الرسول وتمنى اللقاء بهم كما أخبر، ولهم صفات روحية عملية سلوكية أهَّلَتْهم ليشتاق إليهم رسول الله.
إنها بشرى عظيمة يهتز لها كل ذي قلب مشتاق توّاق، ويرشح نفسه لها بالصدق الدائم، والطاعة الكاملة والاستقامة والدعوة الدائبة، والجهاد المستمر.
فكيف لا نشتاق إلى أطيب الخلق الذي سبقنا بالشوق، اشتاق لرؤيتنا فما اشتقنا إليه، ألا من دمعة مشفق على نفسه اللاهية، تنقله من الغفلة إلى الذكر والتذكر والحب والشوق والذوق.
لقد أخبر الرسول أنه سيكون من بعده من أمته محبون مشتاقون إليه، ومن شدة حبهم لنبيهم لا ُيبالون لو أنفقوا كل أموالهم وافتَدَوْا بأهلهم مقابل رؤيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قابَلوا شوق الرسول إليهم بشوق هائج إليه من وراء جدران الزمان والحواجز.
جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله" [5].
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية - يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني" – مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله" –البخاري.
إن المؤمنين الصادقين في زمان الغربة هذا - على قلتهم وذلتهم- لا يشعرون بالغربة ولا بحياة الضنك، التي يُحسُّ بها غيرهم، إذ كيف يشعرون بها وقلوبهم ملأى بحب الله ورسوله والشوق إلى لقائهما، فهم يفتخرون بغربتهم في مجتمع الضياع، ومجتمع انحطاط القيم، ونُضوب الإيمان من القلوب واللهث وراء الماديات المُلهية المُطْغية، وبحبهم وشوقهم لرسول الله تَذهب همومهم وتنجلي كرباتهم، وتبرأ أدواؤهم.
فإلى المصطفى تتشوق نفوسهم العالية، وبحبه تَلتاع أرواحهم السابقةُ إلى الخيرات، الناشئةُ على الاستقامة والطهر،
فهل نهضَتْ بك همتك أخي المسلم لتكون من هؤلاء؟ وهل زاد حبك لرسول الله وتمنيت لقياه واشتقت لرؤية وجهِه الأنور؟ وهل ضاعَفْتَ حبَّك وشوقك ورفعْتَ همَّتَك وأوقدْتَ طموحك ؟ وهل نصرت حبيبك حينما تستوجب النصرة ؟.
فلينظر كل منا إلى صدق إيمانه بربه، وليفتش عن محبته لله ولرسوله بين جوانحه، والشوق إلى لقائهما.
وهذه نماذج مشرقة ممن عرفوا قدر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأحبوه حبا كبيرا وألِفُوهُ ولم يُطيقوا فِراقَه والبِعادَ عنه فحركهم الشوق إليه والتلذذ بطلعته والتنور بنور وجهه ومجالسته:
أخرج الطبراني وابن مردوْيه بسند لا بأس به عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحبُّ إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك وعرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيئين، وإني إذا دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية: " وَمَنْ يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ، وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا " سورة النساء الآيات: 69، 70.
صحابي محب يهزّه الحب المشُوب بالشوق هزاً عنيفاً ويُخرجُه من بيته، فلا يُقعده إلا أمام رسول الله، ويبعث فيه الطموح والهمة ليفكر في مصيره في الآخرة ، هذا هو الحب وإلا فلا.
وهذا "ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له قليل الصبر عليه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحُلَ جسمُه يُعرفُ في وجهه الحزن، فقال له: "يا ثوبان ما غيَّرَ لونك"؟ ، فقال يا رسول الله: ما لي من ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقتُ إليك واستوحشتُ وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك تُرفع مع النبيئين، وإني وإن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك أحرى أن لا أراك أبدا" فأنزل الله {و { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (سورة النساء 13)}
استوحش ثوبان حبيبه واغتم وحزن، وما كان به من وجع ولا ألم، ولم يمت له قريب ولا حبيب، ولم يحزن على مال ضاع منه، ولا على منصب من مناصب الدنيا فاته، ولا على صفقة خسرها، كل ما أهمه هو أنه كان شديد الحب للرسول قليل الصبر على فراقه. كان إذا غاب عنه وجه حبيبه وتذكره هجمت عليه الوحشة وجاءه الشوق. إنه الشوق وأيّ شوق؟! شوق المحب إلى الحبيب الذي أحبته كل الكائنات صلى الله عليه وسلم.
نفوس طاهرة أهمَّها حب الرسول وأنساها مآسي الحياة وهموم الدنيا، ومصائب الزمان، وأرَّقَها البِعادُ عن حبيبها، وجعلها تتطلع لرؤيته، وتتعلق أرواحها به، ولا تغيب صورته عن أذهانها، وكيف لا تبتهج الأرواح بنور محياه، ولا تتشوف الأبصار لرؤيته، وهو دواؤها وطبيبها وهاديها ومن أتاها بكل خير؟!
عباد الله ، إنّ محبّة الرسول واجبة متأكّدة لما ورد في الصحيح عنه والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين ).
بمعنى أنّ الإيمان لا يكتمل إلا بتقديم محبّة رسول الله عن النفس والأهل والمال وكل الناس، لذلك إخوة الإيمان فواجبنا نحو حبيبنا نصرته ودراسة سيرته العطرة وتدريسها للأطفال كي ينشؤوا على محبّته واتباع سيرته .
نسأل المولى العزيز القدير أن يجعلنا من أنصار المصطفى ومن شفعائه يوم القيامة فيصرف عن وجوهنا النار تيمّنا ببركة الوجه الأنور للنبي الأمي ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المفضلات