الخطبة الأولى : غزّة قلب الأمّة النابض

الحمد لله الدائم بره، النافذ أمره، الغالب قهره، الواجب حمده وشكره، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، جلَّ ذكره، وإليه يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير، سبحانه وبحمده جعل لكل أجلِّ كتاباً، وللمنايا آجالاً وأسباباً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، ما جن ليل وبزغ نهار، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ.
عباد الله :
لا زلنا وإياكم مع غزة ،غزة الصمود ،غزة الثبات ،غزة التحدي ، غزة المقاومة .
لكِ الله يا غزّة الجريحة ، كم في أثوابك الدامية من أحزانٍ وآلامٍ وأوجاعٍ وذكرياتٍ تفيض بالأسى والكرب.ما تكاد ترحل المصيبة بأثقالها وكَرْبها إلا وتخلفها مصائب تتكاثر كالسرطان في جسد هذا الجزء المـُنهك المـُنتهك من جسد أمتنا الغافلة.
مناظر الدم، والخراب، والحزن، وصرخات الوجع والألم، ومشاعر الحزن والبكاء، أصبحت روحاً ساكنة في جسد كلّ مسلم ومسلمة من سكّان غزّة المجاهدة الصامدة.
ألا فَلْيَحذَرِ المُسلِمُ مِن خُذلانِ إِخوَانِهِ بِأَيِّ نَوعٍ مِن أَنوَاعِ الخُذلانِ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((مَا مِنِ امرِئٍ يَخذُلُ امرَأً مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ تَعَالى في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ)).
أعلموا عباد الله أَنَّ جَمِيعَ المُسلِمِينَ في مَشَارِقِ الأَرضِ وَمَغَارِبِهَا إِخوَةٌ، لا تَفصِلُ بَينَهُم حُدُودٌ وَلا تُفَرِّقُُهُم جِنسِيَّاتٌ، وَاللهُ تَعَالى هُوَ الَّذِي رَبَطَ بَينَهُم بِرِبَاطِ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ، قَالَ تَعَالى: ﴿إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ، وَقَالَ تَعَالى: فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا﴾، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ؛ لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ وَلا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ))، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ((المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا))، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ؛ إِذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى)).
أَلا فَلْيَهبَّ المُسلِمُونَ لِنُصرَةِ إِخوَانِهِم مَا استَطَاعُوا، العَالِمُ بِجَاهِهِ وَعِلمِهِ، وَالسِّيَاسِيُّ بِثِقَلِهِ وَوَزنِهِ، وَالكَاتِبُ بِقَلَمِهِ وَالخِطِيبُ بِلِسَانِهِ، لِنَحتَسِبْ مَا فِيهِ إِغَاظَةُ العَدُوِّ وَالنَّيلُ مِنهُ، وَلْنَحذَرِ التَّخَلُّفَ عَن الرَّكبِ، فَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿مَا كَانَ لأَهلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِنَ الأَعرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَفسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم لاَ يُصِيبُهُم ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخمَصَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ﴾[التوبة:120].
إنها معركة مفصلية سواءً على المؤمنين أو على الكيان الصهيوني وأذنابه المنافقين ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:22] ، وانظر لوصف الهجوم الذي حدث يوم الخندق فهو نفسه ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ [الأحزاب:11] هذا وصف دقيق لحال إخواننا هناك في غزة فالقصف من البر والبحر والجو ، يقول جل وعلا:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة:214] أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ .. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
عباد الله :
إن الله تعالى يختار الشهداء اختياراً ويصطفيهم اصطفاءً قال جل وعلا:﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران:140]
وقال جل وعلا:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وفي قراءة أخرى " قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ " فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران:146]
ولقد فضحت هذه الحرب المنافقين المتاجرين بدماء المسلمين ، وتستحق هذه الحرب أن نسميها بالفاضحة والكاشفة لأنها كشفت وفضحت المنافقين أفراداً كانوا أو جماعات أو حكومات أو حتى القنوات وهذا ما رآه الناس كالشمس في ضحاها .
هذه الحرب ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأنفال:37] وتأملوا معي قول الله تعالى وكأن الآيات نزلت اللحظة يقول جل وعلا: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾. [آل عمران:167]
كم نادت الشعوب ،كم نادى أصحاب الإيمان أغيثوا إخوانكم في غزة، قاتلوا أين اسلحتكم ؟أين جيوشكم؟ تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن أخوانكم، أما ترون الدماء والأشلاء ،أما ترون البيوت تُدمّر على من فيها ،فعائلات تُباد كاملة ،أما ترون بيوت الله تهدم ،دافعوا عن دينكم وعن بلاد المسلمين ،قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم بماذا وصفهم القرآن : ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾[آل عمران:167]
واسمعوا وتأملوا قول الله تعالى بعد هذه الآية: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[آل عمران:168]
كم سمعنا من أبناء جلدتنا من يقول قد نبهنا حماس وحذرناها ولم تسمعنا ،لو أطاعونا ما قُتلوا ،ونسي هؤلاء المنافقين أن الموت والحياة بيد ملك الملوك جل وعلا ..
أيها المسلمون :إعلموا أن الأمة منصورة ،ودولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة ،يقول جل وعلا:﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ [غافر:51]ويقول تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
إن وعد الله قاطع جازم بينما يشاهد الناس أن الرسل وأتباعهم منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد . . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير .
فلو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور النصر شتى .
إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها . . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟
ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد . فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! .
عباد الله:
قد يبطئ النصر في عالم الواقع لأسباب كثيرة منها :أن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه . وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه!
َإِنَّ اللهَ لَقَادِرٌ عَلَى نَصرِ عِبَادِهِ وَإِهلاكِ الكَفَرَةِ، وَلَكِنَّ مِن حِكمَتِهِ أَن جَعَلَ لِلنَّصرِ ثَمَنًا، قَالَ تَعَالى: ﴿ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِنْ لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَالَهُم سَيَهدِيهِم وَيُصلِحُ بَالَهُم وَيُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لهم﴾.
من أجل هذا كله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .
نسأل الله أن يعز الاسلام والمسلمين وأن ينصر الحق وأهله وأن يخذل الباطل وحزبه.
اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ولاحول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .