الخطبة الاولى : غزّة في قلوبنا

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، وأيده بنصره يوم تحزبت عليه الأحزاب، أحمده سبحانه وأشكره على ما أعطى وأثاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما سأله سائل فخاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من صلى وصام واستغفر وأناب، صلى الله عليه وعلى آله وإخوانه الأصحاب، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الحساب.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين حق التقوى.
بغزة في العراء تصيح ثكلى فترجم بالقذائف والرعود
وأشلاء مبعثرة لقوم يزين جباههم أثر السجود
وأطفال الحصار قضوا سراعا ضحايا كل كاذبة الوعود
مجازر ضجت الفلوات منها وشاب لهن ناصية الوليد
يحتار الجنان، ويعجم البيان، ويكل اللسان عن تصوير حالة البؤس والبأساء، واللأواء والضراء لأهلنا في غزة المكلومة المحاصرة...
فهل نتحدث عن المحرقة اليهودية، التي تقصف بلا رحمة ولا إنسانية، الجوامع والجامعات، والمدارس والجمعيات؟أم نتكلم عن شلالات الدماء، ومجازر الأشلاء،لأطفال في عمر الزهور يمزقون، أو يئنون ويتوجعون؟أم نصور مرارات الأمهات، وقد تعالت صيحاتهن، واصفرت وجوههن، وطالت همومهن حتى طار الرقاد من جفونهن؟
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان.
هذه هي يهود، هذه طبيعتهم، هذه نفسيتهم التي طالما خدرنا بسلام وتعايش سلمي معهم هذه حقيقتهم كما صورها القرآن الكريم.
ماذا ننتظر من قوم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة؟
ماذا ننتظر من قوم ملطخة أياديهم بدماء الرسل والأنبياء، فكيف بالعزل الأبرياء؟
ألم يقل الله عنهم: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} [البقرة: 87، 88]، ألم يقل الله عنهم: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 91]؟
ماذا ننتظر من قوم فقدوا الأدب مع الله، فقالوا لموسى عليه السلام: {أرنا الله جهرة} [النساء: 153]، وقالوا: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181]، وقالوا: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64]؟
هذه الأمة المرذولة الملعونة تتعطش للدماء والحروب {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64].
هؤلاء تربي فيهم عقيدتهم الأنانية واحتقار البشر، فهم في نظرهم شعب الله المختار، وهم أبناؤ الله وأحباؤه.
ثم لا تسل عن أي نوع من البشر تصنعه تلك النفسية المتغطرسة والمجرمة، هل تظن بعد ذلك أن يكون عندهم احترام لمخلوق، أو تقدير لإنسان: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82].إننا يجب أن نستيقن عباد الله أن يهود الأمس هم يهود اليوم، وهم يهود الغد، اختلفت قوالبهم، واتحدت قلوبهم، فجرائم يهود الآن التي نراها هي ذاتها الجرائم التى قامت بها عصابات يهود عند تأسيس الكيان الصهيوني .
ومجازرهم البشعة اليوم هي امتداد لمجزرة دير ياسين والمجازر بعدها، وقادتهم المجرمين اليوم ليسوا إلا أبناء لآبائهم المحتلين المغتصبين،، إن هذا كله ليؤكد لنا أن ما تفعله دولة يهود وبحبل من النصارى إنما هو حلقة من سلسلة العداء التي كانت ولا زالت على دين محمد صلى الله وسلم وأتباعه في أرض الإسراء.
وسيبقى عداؤهم لنا متجددا وماثلا ما دام فيهم عرق ينبض، أو قلب يخفق.
عباد الله:
يبقى السؤال الأهم: لما أمطرت يهود صواريخها، وأنزلت سموم حقدها على غزه الأبية؟لماذا غزة قدرها الحصار والتجويع، والحرب والترويع؟
لأن غزة الآن هي التي تحتضن بين جنبيها أبطال فلسطين، الذين أعلنوا مبدأ المقاومة والجهاد أمام الإملاءات اليهودية.
لأن أبطال غزة هم الذين قالوا مرحبا بالمنايا، في سبيل كرامة الأمة وعزتها، وحفظ مقدساتها.
لأن رجال غزة رفضوا منطق الاستسلام باسم السلام، أمام من لا يؤمن بعهد ولا ميثاق.
رفضوا حياة الذل والترقيع والهوان، ولسان حالهم يقول:
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فأسقى بالعز كأس الحنظل
لأنهم الأبطال الذين قالوا للأمة بعز وشموخ:
لا تبكوا على الشهيد فعندنا مولود جديد
يذكر بني صهيون بسعد وابن الوليد
فتحيّة إجلال إلى أولئك الرجال الذين صدقوا ما عهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
والله سيشهد التاريخ أن الصابرين الصامدين هناك وقفوا أمام غطرسة يهود بسلاح الإيمان.
سيشهد التاريخ أن رجال غزة قدموا أطفالهم قربانا لقضية فلسطين.
سيشهد التاريخ أن أبناء ياسين وأحفاد عز الدين القسام ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين.
يا أبطال غزة:
علمونا بعض ما عندكم، فنحن نسينا!! علمونا بأن نكون رجالا فلدينا الرجال صاروا عجينا!! يا رجال غزة لا تبالوا بإعلامنا ولا تسمعونا، فلقد صغرنا أمامكم ألف قرن!! وكبرتم خلال أيذام قرونا.
هذه هي غزة الأبية، وهذا خبرها، فما خبر أمتنا؟
ما خبر ألف مليون، وقد دعتهم الجراح، ونادتهم المأساة؟!
يا أهل غزة:
لا عذر فنعتذر، وما لنا عن سهام العار مستتر..
عذرا آل غزة؛ فقد أقعدنا الهوان، وأعجزتنا الحيلة عن نصرتكم وإغاثتكم.
عذرا غزة الشريفة؛ فقد طفئت غيرتنا، وبردت نخوتنا، فتخلينا عن قضيتك لتستفرد بك أيادي الإجرام والإرهاب.
عذرا غزة؛ فما في الأمة معتصم، ولا نور الدين، أو صلاح..
عذرا، عذرا؛ فغابة شجاعتنا ونجدتنا أن نطالب بفتح المعابر لنكون لكم هلالا أحمرا.
عذرا، عذرا؛ فقد لجمت أفواه رجالاتنا أن تطلقها صيحة للجهاد والوقوف معكم، وأضحى الحديث عن المقاومة في زمن التعايش السلمي الأعور جريمة لا تغتفر.
عذرا موطن غزة؛ ففينا من الحزن والغم لجرحكم ما لا نبثه ونشكوه إلا إلى الله.
فصبرا يا أهل الرباط، صبرا يا من قطعتم أطماع اليهود عن جسد أمتنا.
صبرا فإن موعدكم النصر أو الجنة، بشراكم يا شامة الأمة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس)) رواه الإمام أحمد وغيره.
عباد الله ،أن تعربد يهود على أرضنا وأشلاءنا؛ فهذا ليس بمستغرب، بل المتوقع والمنتظر منهم مثل هذا أو أكثر، ولكن العجب الذي لا ينقضي أن نسمع ونرى أصواتا وأقلاما ليست بخافته تصور أن ما جرى هو بسبب المقاومة التي لا تقدر مآلات موقفها.

وكأن يهود حمل وديع، كأنهم لم يكونوا محتلين لمقدساتنا!!

عار والله؛ أن نرى شعبا يعيش حياة القهر والظلم والضيم ستين سنة، ثم يخنق ويجوع ويحرم من كل شيء إلا من الهواء، ثم يأتي من يأتي ليلوم المظلوم،ويسكت عن الجلاد والظالم.
إننا والله لا نجد مثلا لهؤلاء الأعزة الشرفاء وهؤلاء اللائمين القاعدين إلا كما قال الله تعالى: {الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين * ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران/168، 169].
هل هؤلاء بحاجة أن يعلموا أن فلسطين محتلة ومغتصبة، وأن حق مقاومة الشعوب تقره كل قوانين الأرض؟
هل هؤلاء بحاجة أن يدرسوا بأن صراعنا مع يهود صراع عقائدي ديني لا يرجى سلمه؟
وأكبر من ذلك عارا موقف من يغلق حدود البلد ليمنع دخول الجرحى والنازحين، في دعم صريح واضح للعدوّ الصهيوني..ضاربا بعرض الحائط كل الأعراف الإنسانيّة التي تدعو لحماية المدنيين من ويلات الحروب ..ألم يقل المولى سبحانه وتعالى في محكم التنزيل وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، فهؤلاء لم يقرّوا حتى بشرك اللاجئ إليهم وكانوا شركاء في ذبح إخواننا الفلسطينيين..
نسأل الله تعالى حفظا لإخواننا في فلسطين كلّها وفي غزّة خاصّة ، كما نسأله أن يجعلهم في حرزه وحفظه وأن يهلك الفئة الصهيونية الباغية ، عليها من الله العزيز لعنة مدوّنة في كتابه المجيد، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.