اكلة لحوم البشر حقيقة أم خيال؟

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عندما يُمسخ الباطن، ويموت الضمير، ويتحول الإنسان إلى شيء آخر أقرب للحيوان بل أضل، وتٌفتح الأبواب أمام قوى الإنسان الضالة لتعيث في الأرض فساداً، قد يقصد الإنسان إحدى المقابر والتي دفن فيها أخيه، ويذهب نحو قبره، لا لزيارته والترحم عليه، بل لاستخراج جثته، ونهش لحمه وعظمه، فيستقبح الناس فعله، وهو إما غافل لفظاعة ما يفعله أو قاصد لذلك عن رغبة وتلذذ، وذلك لفطرته المنحرفة السقيمة.


قد نسمع عن أكلة لحوم البشر، وقد نصدق ذلك أو لا نصدق، وقد يكون هذا الأمر مستبعد في النظرة الأولى، وهو أن ينهش الإنسان لحم الإنسان، ولكن أحكم الحاكمين وأصدق الصادقين أخبرنا عن مثل هذا الأمر في القرآن الكريم :
(.. وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) سورة الحجرات / 12

إنها الغيبة وليست شيء آخر، فالغيبة في حقيقتها وملكوتها هي ما ذكره القرآن وإن بدا للإنسان الغافل أن الغيبة مجرد كلمات تخرج من بين شفتين لتدخل في أذن آخر.


خطورة الغيبة :
- قال النبي (صلى الله عليه وآله) : إياكم والغيبة!.. فإن الغيبة أشدّ من الزنا، إنّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه

يكفي هذا الحديث في بيان قبح هذا الذنب، فالزنا والعياذ بالله - مستقبح في المجتمع والغيبة ليست كذلك، ولكن بمقاييس الإسلام فإن الغيبة أشد من الزنا..

- قال النبي (صلى الله عليه وآله) : ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد.
- قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل اغتاب عنده رجلا : يا هذا!.. كفّ عن الغيبة، فإنه إدام كلاب النار.
ما أبلغ هذا الحديث لمن كان له قلب.. فالغيبة طعام كلاب النار، فهي من جهة طعام في النار لا يٌستساغ طعمه، ومن جهة أخرى فهو طعام لكلاب النار وليس للبشر.

أسباب الغيبة :
للغيبة أسباب وسيتم الحديث - إن شاء الله - عن بعض الأسباب، وذلك للتركيز على العلاج العملي لها :
- خبث النفس :
فالمغتاب قد يتكلم دون مراقبة لما يقول، ولأنه أعطى العنان لنفسه الأمارة لتتحدث بما تشاء، فما يخرج من الخبيث يكون خبيثاً، فيصدر منه هذا الذنب.


- التسلية :
فالغيبة تسمى فاكهة المجالس، فلا يطيب الحديث عن البعض إلا بمائدة شهية فيها لحم أخيه ينهش منه هو وأقرانه.. وأحيانا يفقد الإنسان ما يتحدث به، فيرى أن الغيبة هي السبيل لملأ هذا الفراغ الذي قد يكون في المجلس..

وغيرها من الأسباب كالحقد والحسد وغيرها..

استماع الغيبة :
قد يحفظ الإنسان نفسه من هذا الداء الوبيل، ولكن لا يمكنه أن يمنع غيره من الغيبة، فيكون مستمع لها..

قال النبي (صلى الله عليه وآله) : ما عمر مجلس بالغيبة إلا خرب من الدين، فنزّهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فإن القائل والمستمع لها شريكان في الإثم.

علاجها :
العلاج يبدأ من الالتفات إلى قبح هذا الذنب، ووجود إرادة التغيير في النفس..
ومن الخطوات العملية في العلاج :
1 - التوبة الصادقة على هذا الذنب الذي يعد من الكبائر، ومن شروط التوبة الصادقة : الندامة والعزم على عدم العود، وإن أمكن الاستحلال ممن استغابه، والدعاء والاستغفار له..
سئل النبي (ص): ما كفّارة الاغتياب؟.. قال : (تستغفر الله لمن اغتبته كلمّا ذكرته).


2 - المحاسبة اليومية للنفس، وهي كفيلة مع باقي الخطوات من المشارطة والمراقبة والمعاقبة - بأن يتخلص الإنسان من كثير من السلبيات، فيقف وقفة مع نفسه في نهاية كل يوم، ويرى هل صدر مني غيبة في هذا اليوم؟


قال الكاظم (عليه السلام): ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيرا استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شرا استغفر الله منه وتاب إليه.


مع عدم إغفال المحاسبة الأسبوعية والشهرية ليأتي بحصيلة يعتد بها في هذا الجانب، يمكنه من خلالها أن يعرف مدى التزامه بترك الغيبة. والمحاسبة الأسبوعية والشهرية لا يمكن أن تتم - حسب الظاهر - بشكل دقيق إلا من خلال المحاسبة اليومية، والمحاسبة اليومية لا يمكن أن تعطي ثمارها بشكل جيد إلا بمحاسبة النفس بطريقة علمية إن صح التعبير - أي بعدم الاكتفاء بالتفكير في الأخطاء بل تدوينها، ليسهل عليه مراجعة الأخطاء عند المحاسبة الأسبوعية والشهرية.


3 - معاتبة ومعاقبة النفس عند ارتكاب الغيبة، فالمحاسبة الناجحة والتي تعطي ثمارها بشكل أفضل هي ما اجتمعت فيها معاتبة النفس وتوبيخها، ومعاقبة النفس بما يرضاه الشرع.

كأن يلزم نفسه بصوم يوم صياماً مستحباً إذا تجاوز الحد - مثلا -، مع الالتفات إلى ضرورة عدم الضغط الشديد على النفس بما لا تطيق، والذي قد يجعل ردة الفعل عكس ما أراده فتتمرد وينفلت زمام الأمر من يد صاحبها.

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ترك الغيبة أحب إلى الله عز وجل من عشرة آلاف ركعة تطوعا


4 - التحرز من الحديث عن الغير حتى بما ليس في غيبة، حتى تعتاد النفس على تركها وتمتلك جهازاً حساساً يكشف عن الغيبة كلما سمعها، حتى قد يصل الحال إلى أنه لو سمع الغيبة من التلفاز في مشهد تمثيلي مثلاً - يلتقط جهازه الرقابي أن هذه غيبة، وإن كانت ليست كذلك، حيث أن الأمر مجرد تمثيل لا واقع له.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله :" يا أبا ذر.. إن المتقين الذين يتقون الله عز وجل من الشيء الذي لا يٌتقى منه خوفاً من الدخول في الشبهة."


5 - مصاحبة المؤمنين الصالحين المترفعين عن هذا الداء (الغيبة)، حتى ينهونه عن المنكر عند وقوعه في الغيبة في حال غفلته ويحذرونه منها، وكذلك يضمن نفسه من عدم استماع الغيبة، بعكس الجلوس مع الغافلين عن هذا الأمر، فلا يضمن نفسه من استماع الغيبة، ولا يجد من يعينه على تركها، وعليه عدم الجلوس في مجلس الغيبة.

قال الصادق (عليه السلام) : لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصى الله فيه، ولا يقدر على تغييره.


6 - الدعاء والطلب من الله تعالى ليخلص الإنسان من أمراض القلب ومن الذنوب.


إن مراتب الكمال لا حد لها، ولكن الإنسان عليه أن يبدأ من التزام الواجبات وترك المحرمات، فعليه أن يترك الغيبة، ليمكنه التخلص من بقية آفات اللسان، فلا بد من السعي لتطهير النفس من هذه الآفة الكاشفة عن وجود بذور فساد مزروعة في النفس..
وهذا شهر الله شهر التوبة والإنابة، شهر التغيير والإصلاح، فهو خير معين، وهذه من أفضل الفرص للسعي لتطهير النفس مما تعلق بها من أوساخ الغيبة..
قال النبي (صلى الله عله وآله وسلم): من اغتاب مسلماً في شهر رمضان، لم يؤجر على صيامه.