[align=justify]العمّ جابر ... والموظّفون البدون

جابر ...
أغلب الطلاب البدون سمعوا بهذا الاسم ، هو رجل بدون يعمل حارساً في مدرسة الجهراء الأهلية الخاصة منذ فترة ما بعد الغزو العراقي على بلدنا الحبيب ، يذهب إلى عمله مشياً على الأقدام كل يوم ، في عام ١٩٩٣م كنت أخرج من المدرسة وأجده جالساً على كرسيّه الخشبي وبيده عصاه التي لا يكلّ من حملها ، أنهيت دراستي الثانوية وتزوّجت وأنجبت أولاداً ، وعندما كبر أولادي و درسوا في ذات المدرسة ، وجدت بأن جابر لا يزال حارساً في مدرسة الجهراء الأهلية الخاصة ، وقد أنهكه كبر السنّ ، فتجده غافياً على كرسيّه ، فلا تقاعد ولا تأمين ولا مستحقات ولا معيل يحفظون له العيش بكرامة فيما تبقى من سنوات عمره ، أتساءل ... عندما كان جابر طفلاً هل كانت لديه أحلام ؟! ، هل كانت لديه أمنيات ، هل ... ؟! هل ... ؟! ... يقطع هذه التساؤلات فتح أبنائي لباب السيارة لنمضي لبيوتنا ويبقى جابر .
تلك الفقرة بأكملها هي نصّ رسالة أرسلها لي أخي وصديقي منيف الشمري بعد أن أشعل فتيل الإبداع في داخله منظر العم جابر غافياً على كرسيّه الخشبي ليختصر بأسطره تلك قصة دامت عشرين سنة يوم كنا ندرس أنا وهو في فصل واحد ونشاهد العمّ جابر كلّ يوم ، يوم أن كان قويّاً نشيطاً واليوم نحن نعيل أسراً وهو شيخ طاعن في السن لا يردّ عدوّا ولا يخيف لصّاً لكنه محتفظ بمسماه القديم كحارس لمدرسة الجهراء الأهلية الخاصة .
العمّ جابر بشحمه ولحمه ليس إلاّ نموذجاً حيّاً لأي موظف بدون يكدح ويعمل طوال عمره ليؤمن قوته وقوت عياله وهو يعلم أن تعبه هذا غير مخلوف دنيوياً حيث لا مستحقات لك وأنت تعمل بلا عقود عمل و لا تقاعد يلوح في الأفق ولا وظائف متاحة لأبنائه حتى يحملوا لواء الكفاح بعده ويرتاح هو في بيته ، ولا حل قريب مالم يتغمده الله برحمة منه وفضل وسعة في الرزق ، وليس هناك من ينتفض من أجله من أبناء بلده من أجل أن يتم إنصافه ، وليتهم اعتبروه مادة من دستور الإنسانية تم انتهاكها حتى يقولوا لمن انتهكها لن نسمح لك ! .
في عملي أحرص كثيراً على إنجاز معاملة مندوبي الشركات من الطاعنين في السنّ قبل غيرهم وأرمقهم بنظرة أسى بدت واضحة لزميلي الذي سألني ذات مرة عن سبب تلك النظرة فقلت له بأنني أرى نفسي في المستقبل من خلالهم مالم يتغمدني الله برحمة منه حيث أنني سأظل أعمل وأسعى في طلب رزقي حتى آخر يوم في حياتي حالي كحال كثير من الموظفين البدون الذين يعون هذا بالفعل ويؤرق منامهم التفكير في هذا ، فسؤال من نوعية : إلى متى سأظل أعمل ؟! لا جواب له في قاموس البدون إطلاقاً إلا "حتى أوسّد في التراب دفينا" ، وهذا هو ما يدفع العسكريين البدون وهم الأوفر حظّاً بين أقرانهم حالياً في البحث عن طريقة يتمكنون بها من تمديد فترة خدمتهم إلى سنّ الستين أو أكثر متسترين بشعر مصبوغ لعله يحجب نظر الناظرين عن ظهر محدودب وخدين ذابلين .
إن مجرد التفكير في أنك ستظل تعمل وتعمل وتعمل إلى ما لا نهاية وإلى حيث لا راحة لأمر متعب ومقلق وباعث على الاكتئاب حقاً ، فكيف وأنت تعيشه واقعاً حيّاً من خلال والدك وإخوتك الذين يكبرونك في السن ؟!
وما هذه المعاناة التي يعيشها البدون إلا واحدة من قصص المعاناة الكثيرة في حياة البدون والتي يجهل تفاصيلها مع الأسف كثير ممن يعيشون بين ظهرانيهم من مرددي عبارة "مو ناقصهم شيء" ! ، فرحم الله ضعفك يا عمّ جابر يامن لا أشك بأنك ستظل تعمل حتى آخر يومٍ في حياتك ولو بأجر زهيد ، ورحم الله ضعف الموظفين البدون الذين حرموا من أبسط حقوقهم ، ورحم الله كلّ من دعا للعمّ جابر بخير في نهاية هذه المقالة ورحم الله أخي وصديقي منيف الشمري الذي كان سبباً في كتابتها .


‏‫منصور الغايب[/align]