الخطبة الأولى : الصــبر على البــلاء
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، كاشف البلاء مسدي النعماء و المقصود بدفع الضر والبأساء وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الصابرين وإمام البررة الأتقياء ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
.. أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: شدائد الزمان وصروف الليالي ومحن الأيام وكل ابتلاء يُبْتلى به العبدُ في دنياه هو محكٌّ لإيمان المؤمنين، ومخبرة لصبر المحتسبين، ووبال على الساخطين .. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31].
وعلى قدر إيمان العبد يكون بلاؤه؛ فأشد الناس بلاءً رسل الله وأنبيائه -صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين- فكم أُوذُوا في الله، وكم تجنَّى عليهم أقوامهم فصبروا واحتسبوا، ورسموا بذلك معالم الطريق للسالكين الصابرين المحتسبين ممن أوذي في الله، وامتحن من أجل استقامته على صراط الله .. (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت1-3].
ويتنوع البلاء وتتشكل المحن وتتلون الأرزاء؛ فمن الناس من يُبتلى بفقد الأحبة الذين يكونون له -بعد الله- عُدةً وأعواناً على الشدة من الإخوان والأقربين، والأبناء والأصدقاء المقربين.
ومن الناس من يبتلى بالفقر بعد الغنى، وبالعسر بعد اليسار، وبضنك العيش وقلة الحيلة بعد ناعم الحياة وخفض العيش وبسطة الرزق وسعة التدبير.
ومن الناس من يبتلى بكساد تجارته، أو فساد عشيرته، أو خراب بيته، أو تنكر أهله.
ومن الناس من يبتلى بالأمراض التي تنغِّص عليه عيشه، وتكدِّر عليه صفو حياته، وتقعد به عن بلوغ كثير من آماله، ومنهم من يبتلى بنقيض ذلك من بسطة في المال، وحُظوة في الجاه، ورفعة القدر وسعة النفوذ، والإمداد بمتع الحياة ولذائذها، والتمكن من بلوغ أقصى الغايات فيها كما قال -سبحانه-: (... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]؛ أي اختباراً وإمهالا قد يكون استدراجا؛ إن كان من يبتلى بذلك ممن يستعين بنعم الله على معصيته فيترك أمره، ويرتكب نواهيه كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
وخير ما يفعل المسلم الصادق أمام كل ابتلاء الوقوف موقف الصبر والاحتساب بما قضى الله -تعالى-؛ فإن الصبر -كما قال بعض العلماء- ملاك الإيمان، وزينة الإنسان، وطريقه إلى المعالي والمكرمات.. إليه يسكن وبه يطمئن، وفي ساحته يستقر ويستريح، وهو مقام عظيم من مقامات الدين، ومنزل كريم من منازل السالكين، وهو في الإسلام له خطره وعِظَمُ شأنه .. أشاد القرآن بذكره، ورتب عليه الثواب الجزيل وضاعف لأهله الحسنات؛ ليحببه إلى القلوب، ويرغب فيه النفوس؛ فما من فضيلة إلا وهو دعامتها؛ فإن كان صبراً على الشهوات سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه كان رضاً وتسليماً، وإن كان على النعمة وشكرها كان ضبطاً للنفس وحكمة ، وإن كان في قتال سمي شجاعة وقوة، وإن كان بين يدي حماقة وسفه سمي حلماً، وإن كان بكتمان سر سمي صاحبه كتوماً أمينا، وإن كان عن فضول العيش أو الحديث سمي زهداً؛ فالمرء بدونه في الحياة عاجز ضعيف لا طاقة له بما قد يثقله، ولا حول له ولا قوة بين يدي أمر يشق عليه " انتهى.
ففي الوقوف أمام الابتلاء موقفَ الصبر خيرٌ عظيم اختُصَّ به المؤمنُ دون غيره كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" وفي الحديث أيضاً: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم .. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" أي من رضي بقضاء الله النافذ الذي لا رادَّ له فعاقبة ذلك الرضا من الله على عبده، وأما من سلك سبيل السخط على ربه فيما دبره وقضى به من نكبة وبلاء، وشدة وعناء فإن عاقبة ذلك السخط من الله؛ جزاء سوء ظنه بالله، وعدم رضاه بقدر الله، وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما: "ومن يتصبر يصبره الله".
وإن المعين الباعث على هذا التصبر -كما قال الإمام ابن القيم- رحمه الله-: "ملاحظة حسن الجزاء؛ فإنه على حسب ملاحظته والوقوف به ومطالعته يخفُ حمل البلاء لشهود العوض، وهذا كما يخف على كل من يتحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظ من لذة عاقبتها وظفره بها، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل".
والقصد أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك، قال: وتهوين البلية لأمرين، الأول: أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها وآيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر، الثاني: أن يذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال " انتهى.
وإن مما يعزي النفوس -يا عباد الله- إن مما يعزي النفوس عند نزول الشدائد، ويصرف عنها موجة الألم لفواجعها ونكباتها الأملَ في فرج الله القريب، والثقة في رحمته وعدله؛ إذ هو -سبحانه- أرحم الراحمين، ومن رحمته لعباده أنه لا يتابع عليهم الشدائدَ، ولا يكرههم بكثرة النوائب، بل يعقب الشدة بالسعة والرخاء، والابتلاء بالرحمة وسابغ النعماء، كما قال -عز وجل-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5-6]، فقد تكرر اليسر بعد العسر مرتين، ولن يغلب عسرٌ يسرين، وحيثما وجد العسر على تنوع ألوانه واختلاف دروبه، وجد إلى جانبه يسرٌ ينفث الكربة ويجبر القلب، ويواسي الجراح وينسي الآلام، ويذهب الأحزان خاصة حين يلجأ المؤمن في شدته وبلائه إلى ربه، ويسأله أن يبدله من بعد شدته رخاءً، ومن مجالب أحزانه وبواعث همه فرجاً ويسراً، كما جاء في الحديث: "ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ماضٍ فيَّ حكمك عدلٌ في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآنَ ربيعَ قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي .. إلا أذهب الله همه، وأبدله مكانه فرحا" أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح.
فاتقوا الله -عباد الله- وحذارِ من اليأس من رَوْح الله، واستيقنوا بالفرج القريب من الله الرحيم الرحمن، فما الشدائد والابتلاءات والمحن إلا خطوةٌ على الطريق إلى تحسين الأحوال، وقفزةٌ إلى رخي العيش وبلوغ الآمال، مع ما فيها من تمحيص وتكفير للسيئات، ورفع للدرجات -إن شاء الله- واذكروا على الدوام قول الله -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5] وقوله: ( ... إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
عباد الله: لقد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من كتابه؛ آمِرا به، مرغِّبا فيه مبينا عظمَ الأجر المترتبِ على هذا الخلق العظيم، مبينا أن الصابر يُوفَّى أجرَه بغير حساب؛ ولذا كان الصبر خيرَ ما أُعْطي العبدُ من عطاء، كما جاء في الحديث: "ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر"، وكان -أيضا- علامة على إرادة الله بعبده الخير، كما جاء في الحديث: "إذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا -أي بما يصيبه من البلاء في الدنيا بما يكون به تكفير سيئاته وعلو درجاته- وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافَي به يوم القيامة -أي أخر عنه العقوبة حتى يأتي يوم القيامة، فيعظم ذنبه ويضاعف جزاؤه-" أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد حسن.
فحذار -يا عباد الله- حذار من الجزع أمام البلاء؛ فما هو إلا خيرٌ يراد بكم، وتخفيف من الله عنكم، ورحمة منه وفضل -إن شاء الله-
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذَبْحَ الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضَّنْك، ومحمد يصابر الفقر وقَتْلَ عمه حمزة وهو أحب أقربائه إليه ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها".
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
المفضلات