إن حظر ممارسة النقد إلا على من احاط وألمّ و ربما حفظ كل ما قاله اي شخص و كل ما قيل عن ذلك الشخص ايضا ، فهذا يشكل قيودا لا داعي لها . و يستخدم هذه الحجة من لا يجد حجة ، لأنه لا احد يحيط بكل شيء . أنا شخصيا اتقبل النقد دون ان اشترط على احد ان يقرا كل ما كتبته ، بل له ان ينتقدني على جملة مفيدة واحدة .
انت تحكم على المطعم من وجبة واحدة ، و ليس بعد تناول كل ما هو موجود في ذلك المطعم ، و يحق لك ان تقول ان هذا مطعم غير جيد ، لأن طبقك الذي امامك غير جيد او غير نظيف . النقد متعلق بالقول وليس بالقراءة ، اي بما يـُقدّم وليس بما لم يقدّم .
يجوز طلب الاحاطة بكل ما كتبه ذلك الشخص لو كان الغرض تقديم دراسة عن الشخص : حياته نشأته اعماله فكره تجديداته إلخ .. ككتاب او رسالة علمية ، فهنا نعم يجب الاحاطة والاحاطة التفصيلية ايضا . اما النقد والرد ، فلك ان ترد حتى دون ان تقرا كتابا كاملا ما دام ان تلك الفكرة التي تنتقدها اتضحت معالمها بدون لبس .
ثم لماذا يجب علي - وأنا فهمت ما يقوله ذلك الشخص في هذا الكتاب - ان اقرا كتبا اخرى له ؟ هل ستكون تلك الكتب مناقضة لما ذكره في هذا الكتاب ؟ حينها سيكون الرجل متناقضا . و ان كانت موافقة له ، فما الداعي لقراءتها ؟
يعتبر هذا الطلب هينا الى حد ما امام طلب احد الزملاء الملاحدة الذي لا يكتفي بأن تقرا كتب من تنتقدهم ، بل عليك ان ترجع إلى جذور واعماق التاريخ التي افرزت ذلك الفكر وتقرأ كتبها فترة فترة ، فعندما تكتب عن نيتشه مثلاً ، لا بد ان تقرأ عن اليونان القديمة قبل سقراط ، ثم تأتي رويدا رويدا إلى زمن نيتشه ، لكي تغرق حينها بكتبه حيث التخصص ، و حينها يمكن لك ان تقول (نتشة) من الكلام عن نيتشه !! مع ان نيتشه صريح و واضح في كلامه ويفهم كلامه العوام والخواص ، ولا يحتاج الى كل هذه اللفة عبر التاريخ التي ربما ينفد العمر قبل ان تكمل ، ثم إن هذا النقد لم يقل لنيتشه و غيره قبل ان يقال لمن ينتقدهم . ليت هذا السؤال يوجه اليهم ايضا ..
وهكذا نفهم ان هذه الطريقة المطلوبة طريقة غير علمية ، فالمهم هو وصول الفكرة ، حينها لكل قارئ الحق في ان يحدد موقفه من تلك الفكرة دون أن يُضايـَق في نقده ، ودون ان يُسائل : ما هي شهاداتك وما هي مؤهلاتك وما الكتب التي قرأتها حتى يحق لك ان تنتقد .. !!
نقاط التفتيش هذه التي تشبه معبر رفح ، لا تخدم الفكر ولا تعكس حرية الراي ولا تصمد للنقاش وغير قابلة للتعميم . وهي مثل العلاج المسكـّن ، و كأنها رد و هي ليست رداً . وكل من عجزوا ان يردوا عليه قالوا : اذهب و اقرا وحينها يحق لك ان تكتب شيئا عنه ! أي : انشغل بالقراءة عن نقدنا ! تُرى : لو قلت كاذبا انني قرأت كل شيء عنه ، فهل سيستطيع ان يثبت انني لم أقرأ له شيئا ؟ طبعا لا ، الا اذا كانت القراءة تعني ان أقرأ بعينيه هو لا بعينيّ انا ، وهذه مصادرة على الرأي .. اذا حجة : ( من انت حتى ترد) معناها : حجة من لا حجة له ..
من يستعمل هذه الحجة لا يطبقها على نفسه . وعادة من يستعمل هذه الحجة هم اصحاب الايديولوجيات الدينية او الليبرالية . و شعارهم : ( من أنت حتى تنتقد فلان؟) , وليس (ماذا قلت حتى تنتقد فلان؟) . و كما نرى فهي من علامات الافلاس وضعف الحيلة في كلام لا يمكن رده بالمنطق ، فيُلجأ بعده إلى الشخصنة من خلال : من أنت ؟ وهي من حجج العوام المشهورة عندما يفكر احد و ينتقد بعضا من رموز العوام ، حينها يصرخون في وجهه : من انت حتى تنتقد هذا العلم المشهور ؟ معتبرين ان الشهرة تساوي العلم . مع ان الشهرة في اكثر الاحوال تساوي الاعلام وليس العلم .
لن يتقدم الفكر مع وجود هذه الفكرة ، والتي يصلح ان تسمى بنقطة التفتيش الليبرالية : من انت حتى ترد على نيتشه ؟ من أنت حتى ترد على القصيمي ؟ من انت حتى ترد على داوكينز ؟ ولا ندري من سيدخل بدون تفتيش !
بل ندري ! انهم المداحون فقط ! لن يقال له : هل قرأت كل ما كتبه نيتشه حتى تمدحه ؟ طبعا لن يقال . فطوبى للمداحين !! والويل للناقدين !!
كتبه الوراق .. وجزى الله خيراً من نقله دون اجتزاء مع ذكر المرجع (مدونةالوراق) ،ونظراً لطلب بعض المنتديات انشاء قسم خاص بمقالات المدونة فلا مانع من ذلك بعد التنسيق اثراء للحوارات والنقاش العام ،والله الموفق
المفضلات