الخطبةُ الأولى
الحمدُ لله حكم بالفَناء على هذه الدارِ ، وأخْبَرَ أنّ الآخرةَ هي دارُ الْقَرارِ , أحمدُه على نِعَمهِ الْغِزار ، وأشْهدُ أنْ لا إله إلا الله الواحدُ القهّار . وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسوله حذّر مِنَ الرُّكونِ إلى هذه الدّار , صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الْبَرَرَةِ الأطْهار , وَسلّم تسْليماً كثيراً ..
أما بعد :
أيها الناس / أوصيكم بوصية ربكم لكم تقوى الله عز وجل فهو القائل: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ))
سبيلُ الخلقِ كلُّهمُ فنـــاءُ فما أحـدٌ يدوم له بقـاءُ
يقرِّبنا الصباحُ إلى المنايـا ويُدنينـا إليهنَّ المسـاءُ
أتأملُ أنْ تعيشَ وأيُّ غصنٍ على الأيام طال له النماءُ
عباد الله / داءٌ خطير ، ومرض عُضال أودى بمستقبل كثير من الناس ، فأبدل أفراحهم هموماً وغموماً وصار سبباً في موت قلوبهم ، وتبلُّد أذهانِهم ، فوصفهم الله بما اتصفوا به (( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ))
إنه داءُ الغفلة عن الموت وما عند الموت وما بعده .
الساعة الرهيبة العجيبة , ساعة الاحتضار ، وإن شئت فقل : اللحظة الحاسمة لحظة ُتوديع الدنيا واستقبالِ الآخرة ، التي كلها كروبٌ وشدة , وسكرات وحسرات , عندها الإنسان ينسى دنياه بأسرها ، ولا يشغله لحظاتها ساعة ، اللحظة الحاسمة التي ما خاف من عاقبتها أحد إلا ونجا، وما غفل عنها أحد إلا تحسّر وندم.
لحظة قاسية الآلام ، شديدة المعاناة ، عانا منها خير الخلق صلى الله عليه وسلّم ، فإنه لما نزلت به ؛ أخذ يأخذ من ماء عنده ويمسح به وجهه الشريف وهو يقول صلى الله عليه وسلم : (( لا إله إلا الله إنّ للموت سكراتٌ ، إنّ للموت سكرات )) [ رواه البخاري ]
الموتُ فاعملْ بجـدٍّ أيهـا الرجـلُ
واعلمْ بأنّك مِنْ دُنيـاكَ مُرْتَحِلُ
كأنّني بكَ يا ذا الشّيـبِ في كرْبٍ
بين الأحبةِ قد أوْدَى بك الأجلُ
فاعملْ لِنفسكَ يا مسكيـنُ في مَهَلٍ
مـا دام ينفعُك التّذكارُ والعملُ
عباد الله / لقد صور لنا الله هذه اللحظةَ بقوله : ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ))
وبقوله : (( كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ )) وبقوله ((فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ ، وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ، فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ))
هذه اللحظة الحاسمة , والساعة العصيبة ، التي سوف يتذوقها كل واحد منا ؛ وصفها عمرو بن العاص عندما حل به الموت ، وسأله ابنه فقال : يا أبتاه ! إنك لتقول : يا ليتني ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند الموت حتى يصف لي ما يجد ؛ وأنت ذلك الرجل ، فصف لنا الموت ، فقال : يا بني ، والله كأن جنبي في تخت ، وكأن جبل رضوا على صدري ، وكأني أتنفس من خرم إبرة ، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي ، ورُوي عن الحسن أنه قال: رُؤي أحد الصالحين بعد موته فقيل له:كيف وجدت طعم الموت؟ قال: أوّاه أوّاه وجدته والله شديداً والذي لا إله إلا هو لهُو أشد من الطبخ في القدور والقطع بالمناشير, أقبل ملك الموت نَحْوي حتى استلَّ الروحَ من كل عضو منّي فلو أني طُبختُ في القدور سبعين مرة لكان أهون عليَّ. كفى بالموت طامَّة وما بعد الموت أَطمّ وأعظم. ويُرى آخَر في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاةٍ لا يموت فيستريح, ولا ينجو فيطير. فلا إله إلا الله . تخيل نفسك ، أيها الغافل عن الموت ، تخيل تلك اللحظات الحاسمة ، عندما ينزل بك ، وأهلك من حولك ، وقد تجمع إليك أطفالك ، ينظرون إليك ، ودموعهم على خدودهم ، وأنت تعاني من سكرات الموت ، قد ثقل لسانك ، وَعَرُقَ جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وتحقق فراقك، وارتفعت أجفانك، فبكى الأولاد والإخوان والخلان ، ثم انشغلوا بغسلك وتكفينك ودفنك , لينشغلوا بعده بمالك وبما تركت لهم من حُطام الدنيا .
فالله المستعان على تلك اللحظات .
إننا – ياعباد الله - نستبعد الموت ، نستبعده لأننا أصحاء ، ونستبعده لأننا أغنياء ، وهو والله قريب ! فلا الصحة تمنع عنه ، ولا الغنى ينجي منه ! فخذوا حذركم واستعدوا لهذه اللحظة الحاسمة ؛ كما استعد لها الأولون .
اللّهم هوِّن علينا السكرات , وارزقنا النطق بالشهادة عند الممات .
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِر الله َلِي ولَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فاسْتَغْفِرُوهُ إنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله تعظيماً لِشَانهِ ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأعْوانِهِ وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعدُ : عباد الله / كم يفرح المرء أحياناً بذهاب الليالي والأيام، لرغبة أو مطمع، ولكنه مع ذلك يجب أن لا ينسى أن ذلك يُنقص من عمره، ويدني إلى أجله، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم على الله بعمل صالح يُرضي الله عنه؟
فتذكروا رحمكم الله بانقضاء العام انقضاء الآجال، وبسرعة مرور الأيام دنو الآجال، وحلول هادم اللذات، بتغير الأحوال في هذه الحياة زوال الدنيا وحلول الآخرة ، فلقد رأينا من يملك هذه الدنيا الفانية، وقد رحل منها بكفن، ومن لا يملك منها شيئاً قد رحل بكفنٍ مثله، فالجميع لا شك متساوون في القبور، المعظّم والمحتقر، ولكن بواطن القبور مختلفة، إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران عياذاً بالله، هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا – رَحِمَنِي اللهُ وَإِيّاكُم – على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَال )) إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا))
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) [ رواه مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه ]
اللّهم صَلّي وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد ، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ : أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وَعَلي ، وعن بقيةِ الْعَشَرَةِ المبشرينَ بالجنة ، وعن صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ ، وعَنِ التابعينَ وتابعيـهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين ، وعنّا مَعَهُم بِرحمتـكَ يا أرْحم الراحمين .
المفضلات