الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله غمرنا ببره وإنعامه ، وتابعه علينا بفضله وإحسانه ، خلقنا ورزقنا وهدانا وعلمنا وكفانا وآوانا ومن كل خير أعطانا ، أحمده وأشكره وأعبده ولا أكفره ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر ، وأحل لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله
عباد الله / من أعظم الأمراض التي تفتك بالمجتمعات عموماً، وتعطل حركة النماء والازدهار فيها تضييع الأمانة، والتفريط في المسئولية، أو ما يسمى بالفساد الإداري، هذا الوباء الذي استشرى في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية فكم تعطَّلَ من مشروع كانت الأمةُ بأمَسِّ الحاجة إليه بسبب الفساد الإداري!وكما قال الأول :
نـعيب زمـاننا والـعيب فـينا ومــال زمـاننا عـيب سـوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولـو نـطق الزمان لنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويـأكل بـعضنا بعض عيانا
فكم تأخَّرَ تنفيذ مشاريع رُصِدَتْ لها الميزانيات الخيالية بسبب الفساد الإداري ؛ بل وإن نُفِّذَتْ هذه المشاريع نُفذت بشكل سيء ومستوى رديء لا يتناسب مع ضخامة المبالغ والميزانيات التي صرفت عليها ، ولو أردنا الكلام عن أشكال وصور ومظاهر الفساد الإداري في المجتمع لطال الحديث , وذلك لأن الفساد الإداري صار أمراً مشاهداً يُدركه كلُّ أحد، ويتحدث به الصغير والكبير فعندما ترى التأخر في حضور الموظف وخروجه في وقت مبكر عن وقت الدوام الرسمي وقضاء معظم وقت العمل بقراءة الجرائد والتجول بين المكاتب أو باستقبال الزوار على حساب مصالح المراجعين وتعطيلها ... وعندما تجد مشاريع البنية التحتية تستغرق سنوات وتتوقف بدون سبب منطقي ... وعندما ترى وتلمس التباين الواضح في الخدمات بين مدن الدولة ... وعندما تجد المصلحة الفردية تتغلب على المصلحة العامة والإساءة للوظيفة العامة من أجل تحقيق مكاسب خاصة مالية أو معنوية من خلال التحايل على الأنظمة، أوالتلاعب بها... وعندما لا يعود الطريق الذي تم حفره كما كان وتظهر عليه علامات الغش وعدم الأمانة أو يتم قفل الطريق بعد الانتهاء من تجهيزه ... وعندما يصبح الوطن جنة التاجر الجشع فلا حسيب ولا رقيب على ما يفعله في المستهلكين ... وعندما تستغرب وتتعجب كلما نظرت إلى مبنى الغرفة التجارية وتسأل نفسك: ما فائدتها ومادورها في قضية التلاعب بالأسعار على سبيل المثال ... لقد أوجد هذا وغيره انفصام بين النظرية والتطبيق وبين التصور والسلوك وبين القناعات والأداء .
عباد الله / لقد تناول القرآن جانب الفساد, وتعددت الآيات بذكر لفظ الفساد , فعندما خلق الله آدم , وأخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة كان استفهام واستغراب الملائكة عن هذا المخلوق الجديد بقولهم : ((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )) ومعنى ذلك بأن الأرض كانت مكانا يسوده الاطمئنان والسلام والهدوء لا فساد فيها ولا خراب ولا تجاوز ولا تعدٍ حتى كان هذا المخلوق المكرّم عند الله هو مبدأ الفساد وسفك الدماء , وكان الرد الرباني على هذا الاستغراب الملائكي : ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )) إشارة إلى حكمة وسر في وجود هذا المخلوق على الأرض .
عباد الله / لقد أحسن ولي الأمر - وفَّقَه الله – في هذه البلاد المباركة بإنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد، وأمام هذه الهيئة طريق طويل لمواجهة هذا الفساد الإداري ومحاربته؛ حفاظاً على أمن المجتمع، واستقراره الاجتماعي، ومكتسباته، ومُدَّخراته ، وأعظم ما يعين على تحقيق هذا الهدف تعميق معنى الأمانة ومنزلتها وأهميتها في النفوس، وهي الأمر الذي اعتنت به الشريعة عناية فائقة، فقال تعالى مبينا فرضية أداء الأمانة والتحذير من الخيانة فيه ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ )) وقال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) وقال صلى الله عليه وسلم ((أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُن مَن خانك )) وفي الحديث الصحيح بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تضييعَ الأمانة من علامات ضعف الإيمان، وأن أداءها على الوجه الأكمل من علامات قوة الإيمان، فعن أنس - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يقول ))لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له )) ولذلك كانت تضيع الأمانة من خصال أهل النفاق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان )) بل أوضح -صلى الله عليه وسلم- أن تضييع الأمانة علامة على اقتراب الساعة؛ لأنها لا تقوم إلا على شرار الناس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " ، قال : كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : " إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) رواه البخاري ومسلم .
فاتقوا الله عباد الله وخذوا بهداية كتاب ربكم، وسنة نبيكم، وعظموا الأمانة في نفوسكم، لتصلح أحوالكم، ولتزول كثير من مشاكل المجتمع التي يعاني منها . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد : عباد الله / أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله
في أنفسكم وأهليكم، اتقوا الله فيما وليتم، مهما كانت الولاية صغيرة أم كبيرة فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) ألا وإن من أعظم الأمانات أمانة الوظائف بشتى صورها وأشكالها، فتجب تقوى الله فيها، والحرص على أدائها على الوجه الأكمل، والقيام بواجباتها ومسئولياتها فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلتُ يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي وقال ((يا أبا ذر، إنك ضعيف ، وأنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدىّ الذي عليه فيها ، ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )) ومن أعظم الأمانات أمانة الأموال العامة التي تعود للمسلمين، والتي يجب أن يحافظ عليها الإنسان أشد من أن يحافظ على ماله الخاص، يقول - صلى الله عليه وسلم ((مَن عمِل منكم على عمَل فكتم مخيطا فما فوقه، فهو غل يأتي به يوم القيامة )) فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم وفي مسؤولياتكم وتحروا الأمانة فيها , وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ............
المفضلات