[align=justify]تبكي خُناسٌ على صخرٍ وحُقّ لها
إذ رابها الدّهرُ إنّ الدّهر ضرّارُ
الخنساء

أصعب اللحظات هي تلك التي تمسك فيها القلم وأنت تشعر برغبة عارمة في الكتابة وشوق فاضح لاحتضان الأوراق ، فتصطدم بخذلان القلم لك ، وتطيش منك الأفكار ، وتتبعثر منك الكلمات ، وتنحبس العبارات ، ولا ينطق قلمك "ببنت حبر" ، فتعود حزينا بخفي حنين ، تجرخلفك أذيال الخيبة ، منكساً رأسك ، مرجعاً الأمر كله لسببين لا ثالث لهما ؛ إما لقلة بضاعتك وكسادها ، وإما لعظم قدر المقام إذا ما قورن بالمقال فيستحي المقال من المقام ويفر على شكل أفكار مشتتة تختبئ خلف ذاكرة مشوشة أكل عليها الحزن وشرب ، تحاول استجماعها ولكن بمجرد أن تلامس أصابعك القلم تتشتت تلك الأفكار منك مرة أخرى مستغلة انشغالك بطريقة مسكك للقلم ومحاولة عدّ أصابعك قبل الكتابة !! ، ولله درّ المبدع محمد الرطيان الذي يقول : "إذا قمت بعدّ أصابعك قبل كتابة المقال فإنك ستخرج بأصابع كاملة وفكرة ناقصة" .
جميل أن تمسك بالقلم لتكتب به ما جاش في صدرك وتجسد به الضحكات والدموع ، الآهات والقهقهات ، على شكل حروف وكلمات ، ولكن الأجمل أن يمسك القلم بيدك ويتشبث بها كما يتشبث الغريق بقشة ، ويجبرك هو على الكتابة ، ويطير بك فوق هامات سحب الأدب ، فتشعر بأن يدك تسابق أفكارك وأن سرعتك في الكتابة قاربت سرعة الضوء ، فتحمد الله على عدم وجود كامرات للسرعة على هوامش الورق ! ، وترى الكلمات تتراقص على صوت وقع خطى القلم فوق الورق ، وترى علامات الترقيم تتناثر ، كل واحدة منهن تعرف مكانها فلا تزاحم أختها ، حتى يجيء دور النقطة الأخيرة التي ما إن تضع نفسها في مكانها إلا ويضج المكان بصوت تصفيق لا يسمع دويّه إلا أنت ، ولا يشبهه إلا صوت تصفيق المستمعين لفرقة أوركسترا بعد فراغها من أداء معزوفتها .
كم كنت أتمنى أن أعيش تلك اللحظات وأنا أكتب مقالا عن تيماء ، عن الصابرة الصامدة في وجه كل عوامل التعرية بأنواعها وأشكالها الحسية منها والمعنوية ، عن تيماء ذات البيوت الحمراء في أول نشأتها ، وعن تيماء التي تحولت إلى بيوت من الصفيح الأبيض رغماً عنها ، عن تيماء الخاوية من الناس في أول نشأتها ، وعن تيماء المكتظة التي لا تجد لك فيها موضع قدم في أوقات الذروة ، عن تيماء الهيل والقهوة والكرم والمجالس الطيبة ، عن تيماء العوز والحاجة والضنك والضيق ، عن تيماء البيوت الضيقة ، عن تيماء الصدور الشمالية الواسعة ، عن تيماء التي تهتز جدرانها التي لم تبنَ على أساس متين مع كل صوت رعد أو مطر شديد ، عن تيماء التي بنيت عادات أهلها على أساس متين لا يتزعزع في وجه رياح التغيير والعولمة ، عن تيماء التي ارتجفت بيوتها بسبب سير الدبابات العراقية بين شوارعها في الغزو الغاشم وعن تيماء التي استقبلت قوات التحالف بأبواب مشرعة وكرم ضيافة غير مستغرب على من يعرفها ويعرف أهلها .
منذ يومين وتيماء تبكي وحُق لها أن تبكي ، بكت تيماء بعد أن رابها الدهركما راب الخنساء قبلها ، بكت تيماء بعد أن استباحت حرمتها آليات وزارة الداخلية وروعت الآمنين فيها ، بكت تيماء يوم أن رأت أبناءها يضربون ويهانون وينكل بهم وهم يحملون أعلام الكويت وصور سمو الأمير حفظه الله ولافتات تطالب بحق المسلم على أخيه المسلم ، بكت تيماء ورفعت رأسها عاليا حتى يرى دموعها الجميع وحتى تنظر من سيأتيها بمنديل ليمسح دموعها ويبشرها ببسمة غابت ولكنها حتماً ستعود .
كم كنت أتمنى أن أقدم كل ما لدي من كلمات لتيماء وأنا ابن تيماء الذي ترعرع بين أزقتها وسبرها وسبر أهلها واكتسب كل ما به من صفات طيبة من تلك البقعة التي يسمع عنها أهل البلد ولم يروها ، كم كنت أتمنى أن أقدم ما يليق بك ياتيماء ، ولكنه القلم أراه يستعصي علي ، والكلمات أراها تفر مني فرار المجذوم من الأسد ، والأفكار أراها تطيش مني ، والشئ الوحيد الذي طاوعني اليوم هي دموعي وها أنا ذا أجود بها كمداد لقلمي ..... لهذا كان العنوان .... عذراً تيماء !! .[/align]