أن تقرأ الموضوع أكثر من مـرّه وأكثر.. ليس معنى هذا أنه يميل إلى

إسلوب الإبهام والتعقيد ولا يدل على عدم إمكانية الكاتب وضعف مخزونه


اللغوي.. فقد يكون هناك من القراء من يختاج إلى أن يقرأ الشئ


أكثر بكثير من غيره.. حتى يفهم الشئ ويدركه.. وهذا شئ جميل


وقد يرى الكثير ممن لا يملكون الملكة الكتابية وقدرتها أن من يملك


الكلمات الأكثر تعقيداً وإبهاماً فيشبعها في موضوعه هو كاتب بارع


ويملك الكثير من المخزون اللغوي أكثر من غيره..


وهذا ليس دليلاً كافياً على عدم قدرة كتابة غيره مما لا يملكونه..


فالمخزون اللغوي لا شك أنه أمراً ضرورياً ليصبح المرء كاتباً


ولكن ليس معنى أن من يفتقده لا يستطيع الكتابة والتعبير عما يريده..


وأنني أجد أن كلما أصبحت الكلمات أكثر وضوحاً وأبعـد بعـداً عن وجه


التعقيد والإبهام هي دليل على قدرة وملكة الكتابة التي يملكها صاحبها..


لأنها في وضوحها تجبرنا على أن نرى أن كاتب الموضوع يرى فيما


يكتبه أنه قادر على فهمه ومدرك جيداً له.. فهو الأقرب إليه من غيره


في تفصيله وتحليله والتعبير عنه.. لأنه أعطاه الكثير من وقته..


فكانت رؤيته له شملت كل جوانبه ومن الطبيعي أن تصل فكرته


بوضوح إلى الجميع من العقول التي حوله..


وفي الجانب الآخر من الكتّاب الأقل قدرة على الكتابة يتسارعون على


جلب الكلمات المبهمة والمعقدة في مواضيعهم..


لهدف أن يوصل للقارئ فكرة أنه كاتب متمكن وقادر على أن


يكتب في أيَّ شئ.. ومتى يشاء من الكلمات..


ليس لغرض أن يوصل للقارئ معنى موضوعه أكثر من أن يوصل له


قدرته على الكتابة.. وهذا شئ سيئ وظلم للموضوع الذي كتبه سواء


موضوع اجتماعي أو سياسي أو غيره.. لأن مثل هذه المواضيع المهمة


تحتاج لمن يفهمها ويدركها جيداً وتصل للعقول بوضوح لتجد الحل عندها


بعيداً عن أغراض الكاتب الأخرى التي تجعلها أكثر إبهاماً وتعقيداً


فتفقدها الحلول لعدم وضوحها في عقل كاتبها وأغراضه البريئة منها..


يجب أن يكتب الكاتب بكل مالديه محاولاً بشتى الطرق إيصال فكرته


المبنية على أهداف نبيلة بكل الوضوح والنضوج لتدركها كل العقول..


لأن من بينها من تحتاج إلى كلمات في الموضوع واضحة وترى


بساطتها التعبيرية للموضوع في تصويرها وتحليلها حتى تفهمها


وتدركها بكل ما يمكن أن تفهمه.. وهذه هي مسؤلية الكاتب الناضح


الناضج الذي يكتب وتجبره أهداف نبيلة على ذلك.. ويراعي بقية


العقول بكل أنواعها..


فالله العزيز الحكيم حينما أنزل الآيات التي نزلت في مـكـة كانت كلماتها


قصيرة أقصر من الآيات التي نزلت على أهل المدينة حيث أنها


آيات طويلة.. وهذه حكمة لتدل لنا أن أهل مـكـة أبلغ من أهل المدينة


فلديهم قدرة بلاغية أدبية كافية لفهم الأشياء مباشرة دون أن تكون


بحاجة إلى طول الآيات بغرض التفصيل لغرض فهمها وإدراكها


عكس أهل المدينة الأقل بلاغة منهم.. فهم بحاجة إلى طول الآيات


لغرض التفصيل والتحليل لتدركها وتفهمها..


لهذا أشتهرت الآيات المدنية بطولها وأشتهرت الآيات المكية بقصرها..


فكان الله يعلم بما تملكه عقولهم من قدرة.. ويعلم بما هم في حاجة إليه


لفهم الأشياء..


والله أحكم الحاكمين وأعلمهم علماً بما تملكه كل العقول..


والله على كل ما أقول أعلم.