وحدها الصدفة هي التي لعبت في ظهوره، وجعلته رمزا من رموز شهر رمضان المبارك، ليس في السعودية فحسب، بل في جميع الأقطار الإسلامية، وعلى الرغم من مرور مئات السنين على تلك السنة، والتطور الذي ضرب مختلف جوانب الحياة، فإن مدفع رمضان لا يزال رابضا متمسكا بمكانته وسيلة محببة لدى الكثيرين لإعلان موعدي الإفطار والإمساك.
مدفع رمضان في مكة المكرمة عبارة عن آلة حربية تجر بواسطة مركبة على أربع عجلات لا تطلق طلقات أو ذخيرة حية، بل تطلق ذخائر صوتية ناجمة عن عملية انفجار البارود واحتراقه داخل فوهة المدفع، فينطلق الصوت ليُسمع في أرجاء المنطقة، ويصدر دخانا متصاعدا نتيجة لاحتراق البارود بعد إطلاق الذخيرة.
ويحتل مدفع رمضان في العاصمة المقدسة أعلى قمة جبل معروف باسمه، وهو «جبل المدافع» وقد تم اختيار المكان تحديدا لما توافرت فيه من مقومات جعلته موقعا استراتيجيا، ومن ضمنها خلو المنطقة من السكان، بالإضافة إلى كونها منطقة مرتفعة، تسهل مشاهدته بالعين، لا سيما أنه مجاور للحرم ومناراته. وكان سكان منطقة مكة المكرمة قبل بناء المباني الحديثة والشاهقة، يشاهدون بسهولة الشخص الذي يقوم بإطلاق القذيفة.
ولم يسلم المدفع من التطور التكنولوجي الذي طال جميع نواحي الحياة فقد استبدل في السنوات الأخيرة بمدفع حديث وهو شبه آلي والقذيفة تكون جاهزة وليس على الشخص الذي يطق القذيفة إلا أن يضعها في محل ويقفل عليها ثم يضغط على زر معين يعطي صوت الانفجار، بعكس القديم الذي كان يعمل يدويا فكانوا يملأون فوهة المدفعية بالبارود من الأمام بيدهم ومن ثم يكبسونها يدويا أيضا من خلال عصا وبعد ذلك يتم إطلاق القذيفة عبر سحب حبل للخلف بشده ومن ثم يحصل القذف.
وكان الشخص المخول بإطلاق القذيفة قديما يأتي قبل موعد الأذان بفترة كافية، حتى يتسنى له تجهيز المدفعية، والتأكد من مدى صلاحيتها، بينما الآن أصبح الوضع مختلفا تماما، فتجد الشخص المسؤول يأتي قبل موعد الأذان بدقائق، وبمجرد سماعه مع بداية التكبير، يطلق تلك القذائف الصوتية، التي يسمعها سكان مكة المكرمة. وعلى الرغم من استمرار مدفع رمضان، في أداء مهمته طول فترة الشهر الفضيل، وتعاقب الأفراد العاملين عليه، فإنه لم تسجل أي حوادث أو إصابات أثناء تعاملهم معه.
ويشار إلى أن المدفع الحالي هو الوحيد في مكة المكرمة بعد أن كان هناك نحو 3 مدافع يتم التبادل بينها، في كل من «جبل النوري» و«جبل شماس» و«جبل الجموم» حيث إنه كان الوسيلة الوحيدة لإعلام الناس بوقت الإفطار والإمساك، في ظل عدم انتشار الوسائل الإعلامية كما هو حادث الآن، ولكن جميع تلك المدافع توقفت عن العمل بعدما توسعت وانتشرت وسائل الإعلام المختلفة مثل الراديو والتلفزيون وغيرهما.
وحتى وقت قريب، كان الفنيون المسؤولون عن المدفع يقومون بإخراجه قبل شهر رمضان لتجهيزه والتأكد من سلامته وجاهزيته للاستخدام طيلة الشهر الكريم، ويستمر عمله طيلة شهر رمضان بمعدل 3 مرات كل يوم، وبانتهاء أول يوم من أيام عيد الفطر يتم إنزاله من الجبل، وحفظه في مقر إدارة المهمات والواجبات الخاصة بشرطة العاصمة المقدسة، مع استمرار صيانته بطريقة دورية منعا للصدأ أو تلف أحد أجزائه، ولا يعود مدفع رمضان إلى مكانه بـ«جبل المدافع» إلا قبل بداية شهر رمضان الكريم بيومين من كل عام ليكرر مهامه السنوية التقليدية، ليظل تراثا تقليديا عريقا يميز مكة المكرمة في شهر رمضان الفضيل.
ويحظى مدفع رمضان بمكانة كبيرة لدى كبار السن الذين عاصروه وعايشوه بجميع مراحلهم العمرية، وكان شاهدا على لحظات أفراحهم وأحزانهم، فلم يكن مجرد آلة إعلام بمواعيد الإمساك والإفطار، بل إنه رمز وتراث يرجون أن يورث لأبنائهم ثقافة محببة مرتبطة بشهر الصيام.
المتصفح لتاريخ المسلمين قديما، باستطاعته الوقوف على المحاولات المتكررة هنا وهناك، على مر التاريخ، ومع زيادة الرقعة المكانية والسكانية، وابتكار وسائل مختلفة لإعلام الناس بموعد الإمساك والإفطار، لا سيما أنهم كانوا يأكلون ويشربون من غروب الشمس حتى وقت النوم، ولكن عندما بدأ استخدام الأذان واشتهر بلال وابن أم مكتوم بتأديته سهل الأمر عليهم، إلى أن ظهر مدفع الإفطار إلى الوجود، الذي ساعد كثيرا في تنبيه الناس بدخول الوقت لا سيما البعيدين عن المناطق التي كان يؤذن بها ولا يصلهم صوت المؤذن.
واختلفت الروايات التاريخية حول أصل ظهور المدفع، إلا أنها تتفق على أن عامل الصدفة كان العامل المشترك بينهم، الذي لعب دورا كبيرا في استخدامه، كأداة لتنبيه الناس بموعد الإفطار.
فالرواية الأولى تشير إلى أن العاصمة المصرية كانت أول مدينة يطلق فيها مدفع رمضان، وكان ذلك بغروب أول يوم رمضان في العام من عام 859 للهجرة، وذلك عندما أراد السلطان المملوكي خشقدم أن يجرب مدفعا وصل إليه جديدا فصادف وقت إطلاق المدفع وقت الإفطار بالضبط، فظن الناس أن السلطان تعمد ذلك لتنبيههم بموعد الإفطار.
فخرجت جموع الأهالي في اليوم التالي إلى مقر الحكم تشكره على هذه البدعة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانا بالإفطار، لُيضيف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك كل يوم حتى نهاية الشهر الكريم.
أما الرواية الثانية، فتفيد بأن محمد علي الكبير، والي مصر كان يجرب مدفعا جديدا استورده من ألمانيا، في إطار خططه لتحديث وتطوير جيشه، فانطلقت أولى طلقاته وقت أذان المغرب بشهر رمضان، فارتبط في أذهان العامة أن ذلك الصوت هو إيذان بوقت الإفطار.
فيما تشير الرواية الثالثة إلى أن الصدفة وحدها هي التي لعبت دورها في ظهوره، حينما كان بعض الجنود في عهد الخديوي إسماعيل ينظفون أحد المدافع فانطلقت منه قذيفة في سماء مدينة القاهرة، مصادفة وقت أذان المغرب من شهر رمضان، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدا جديدا للإعلان عن موعد الإفطار وسروا بذلك.
وعندما علمت ابنة الخديوي إسماعيل، الحاجة فاطمة بما حدث راقت لها الفكرة وأصدرت فرمانا تدعو فيه إلى استخدام المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية، ومنذ ذلك الوقت ارتبط في أذهان الناس بموعد الإفطار والإمساك وأطلقوا على ذلك المدفع «الحاجة فاطمة» ومكانه بقلعة صلاح الدين الأيوبي.
وتستطرد تلك المراجع التاريخية أن فكرة المدفع بدأت تنتشر منذ أواخر القرن التاسع عشر من مصر إلى دول الشام مثل دمشق والقدس وغيرها من المدن الأخرى ومن ثم إلى المناطق المجاورة لها مثل العراق انتقالا إلى الكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح عام 1907، ثم انتقلت إلى كافة أقطار الخليج قبل عصر النفط، ومن ثم انتشرت باليمن والسودان وصولا إلى دول غرب أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا التي دخل إليها المدفع تحديدا عام 1944.
المفضلات