بسم الله الرحمن الرحيم الخطبة الأولى الحمد لله الذي جعل الجنة لعباده المؤمنين نزلاً, ويسّرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلاً, وسهّل لهم طرقها فسلكوا السبل الموصلة إليها ذللاً, وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم إليه, وأودعها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.أما بعد: أيها الناس / اتقوا الله تعالى حق التقوى،وتمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى وتفطنوا ذلك على القلوب والأعظى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .عباد الله / لقد خلق الله الجنة وجعلها درجات، قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ، وقال جل وعلا: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، وقال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ، وجعل بين الدرجة والتي تليها كما بين السماء والأرض, عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: (( الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ، -وَقَالَ عَفَّانُ: كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ-، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ مِنْ فَوْقِهَا، وَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ)) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني . وفي حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: ((يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى)). رواه البخاري .وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إنّ أهلَ الجنّة يَتَراءَوْنَ أهلَ الغُرف مِنْ فَوْقِهِم كما تَتَراءَوْنَ الكوْكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفقِ منَ المشرقِ أو المغرب؛ لِتفَاضُلَ ما بَيْنَهُم))، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال: ((بَلَى، والّذِي نَفْسيِ بِيَدِهِ رجالٌ آمنُوا باللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)) رواه البخاري. عباد الله / الفردوس هو أعلى درجات الجنة، وهو تحت عرش الرحمن عز وجل، ومنه تخرج أنهار الجنة الأربعة، وأعلى مقام هو مقام الوسيلة، وهو مقام لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله؛ فمن تابع المؤذن ثم سأل الوسيلة لرسول الله حلت له شفاعته يوم القيامة. ثم تليها غرفُ أهلِ عليين وهي قصور متعددة الأدوار، من الدر والجوهر، تجري من تحتها الأنهار، وهي منازل الشهداء والصابرين من أهل البلاء والأسقام والمتحابين في الله. ثم باقي أهلِ الدرجات، وأدناهم منزلةً من كان مُلْكُه مثلُ عَشَرَة أمثالِ أغنى ملوك الدنيا.عباد الله / ما من أحدٍ من المسلمين إلا ونفسُه تتوق إلى الدرجات العلا من الجنة، ويتمنى مرافقة النبي في أعالي الجنان, فمرافقةُ النبي في الجنة منزلةٌ سامية، ومرتبةٌ عالية، ومكانةٌ رفيعة؛ فيا قرة عين من حازها! ويا فوز من حظي بها!فينبغي للمسلم أن يكون ذا همة عالية، إن كانت قدمه على الثرى فهمته في الثريا، وإن كان يعيش في الدنيا فهمه الأول الفوز في الآخرة، وهذا ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فعبد الله بن مسعود ، رَوَى أن رسول الله دخل الْمَسْجِدَ وَهُوَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وهو يُصَلِّي، وَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ النِّسَاءَ، فَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ الْمِائَةِ فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَقَالَ النَّبِيُّ : ((اسْأَلْ تُعْطَهْ اسْأَلْ تُعْطَهْ))، ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ))رواه أحمد وصححه الألباني . فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ لِيُبَشِّرَهُ وَقَالَ لَهُ: مَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَارِحَةَ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.رواه أحمد وصححه الألباني .وربيعةُ بن كعب الأسلمي، الذي كان من فقراء الصحابة وكان من أهل الصُّفة، وكان ربيعة ملازمًا لخدمة النبي يبيت عند باب بيته لأداء خدمته، فيأتيه بما يطلب من ماءٍ للوضوء وغير ذلك، وبقي على هذه الحالة حتى انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، أراد النبي يومًا أن يكرمه بما يفرحه ويخفف عنه فقره، فقال لربيعة: ((سَلْ)) أي: اطلب ما تحتاجه وتتمناه نفسك، ولعل أول ما يتمناه الفقير المعدم أن يرزق مالًا يتمتع به أو بيتًا يسكنه، وهو مطلب لا عيب فيه بالنسبة لفقير محتاج، لكنَّ ربيعةَ كانت همته أعلى من ذلك كله، قال للنبي : أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فقَالَ النبي : ((أَوَ غَيْرَ ذَلِك؟)) قال ربيعة: هُوَ ذَاكَ، فقَالَ له النبي : ((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُود)) رواه مسلم .تلك -عباد الله- النفوس الزاكية، والهمم العالية، التي تؤثر الآخرة على العاجلة.عباد الله / كلنا يتمنى أن يدخل الجنة بل ويكون مع حبيبه بالجنة فهذه أمنيّته الغالية وهدفه الأوحد وهمه الأول ؛ ولكن كيف تتحقق هذه الأمنية وهذا المطلب ؟ نقول :هناك أعمالاً تكوناً سبباً في دخول الجنة ومرافقة النبي بالجنة ، فمن الأعمال :طاعة الله تعالى والكف عن محارمه، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ، وقال : ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى))، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)) رواه البخاري.ومما يعين على دخول الجنة من الأعمال : محبةُ الله عز وجل ومحبةُ رسوله ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟)) قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: ((فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِي : ((فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ. متفق عليه .وعلامة صدق المحبة لله عز وجل وللنبي : طاعةُ الله وطاعةُ رسوله واتباعه، ولهذا رتّب على اتباعِه وطاعتِه مرافقتَه في الجنة، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ومن الأعمال :كثرة السجود لله رب العالمين بأداء الصلوات المكتوبة, والإكثار من النوافل, كما بين ذلك النبي لربيعة بن كعب الأسلمي، ويقولُ مَعْدَان بْن أَبي طَلْحَةَ الْيَعْمرِي قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ. أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً))رواه مسلم .ومن الأعمال : حسن الخلق، قال : ((إنّ مِنْ أَحَبِّكُم إليّ وأقْربِكُم مِنّي مَجلساً يومَ القيامةِ أَحَاسِنِكُم أَخْلاقاً، وإنّ أَبغضَكم إليّ وأبْعَدَكم منيّ مَجلساً يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ))، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)) رواه الترمذي ، وإسناده حسن .وسئل رسولُ الله عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تَقْوَى اللهِ وحُسْنُ الْخُلُقِ ))أخرجه الترمذي ، وصححه الحاكم . أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا إيماناً صادقاً وعلماً نافعاً وتوبةً نصوحاً قبل الممات . أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم . الخطبة الثانيةالحمدُ لله وليِّ الصّالحين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له إله الأوّلين والآخرين، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الخلق أجمعين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه والتّابعين.أما بعد عباد الله / ومن الأعمال الجليلة التي تقرب من رسول الله في الجنة: كفالة اليتيم، ففي صحيح البخاري من حديث سَهْل بْن سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا ، رواه البخاري .ومن الأعمال الجليلة أيضاً : رعاية البنات والقيام عليهن، ففي صحيح مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ)) وَضَمَّ أَصَابِعَهُ ، رواه مسلم .تلك -عباد الله- بعض الأعمال الجليلة التي يتحقق بها دخول الجنة بإذنه تعالى والقرب من النبي فيها ، كما أن هناك أعمالًا أخرى عديدة يحصل بها دخول الجنة، وأعمالًا أخرى يكفر الله بها الذنوب، وهذا من سعة فضل الله ورحمته بعباده، فالمؤمن الذي حقق الإيمان وأدى الواجبات واجتنب الكبائر وعمل بما تيسر له من هذه الأعمال يرجى له أن يكون مرافقًا للنبي في الجنة. نسأل الله الهداية والإعانة والتوفيق والسداد ، إنه جواد كريم.ألا وصلوا وسلموا -عباد الله- على نبيكم محمد ...
المفضلات