بسم الله الرحمن الرحيم
ملف الخطبة في المشاركة التالية للخطبة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (( يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون ))(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)))) يَا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قَولاً سَديداًيُصلح لَكُم أَعما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطع الله وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً)) أما بعد:عباد الله / قصص الأنبياء فيها من العبرالكثير والكثير، ولذلك قصها الله علينا في كتابه، وأورد من أخبارهم ما فيه موعظة وذكرى لنا، وهذا فيه امتثال لأمره تعالى الذي أمرنا أن نتدبر في آياته، وأن نأخذ من هذه القصص العبر والذكرى،ومن ذلك قصة نبينا سليمان عليه السلام فقد آتى الله تعالى نبينا سليمان ملكاً عظيماً لم يؤته لأحد قبله، ولن يؤتيَه لأحد بعده، حيث قال في دعائه : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فاستجاب الله له وسخر له ما سخر من عباده من الجن، والإنس، والطير، وسائر المخلوقات، (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي جموع هائلة،وجيوش عظيمة لنشر الإسلام في الأرض؛ وهذا هو الأصل فكل مسلم آتاه الله منصباً، أو مالاً، أوموهبة، أوقدرة أن يسخرها لخدمة دينه.(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) نعم عباد الله تفقد الأتباع والجنود، فإذا تفقد الطير فقد تفقد الإنس والجن الذين معه، فياليتنا نتفقد أولادنا في الصلاة وغيرها كما تفقد سليمان عليه السلام جنوده الكثيرين، وأولادنا معدودون.والرسول صلى الله عليه وسلم قال ((ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)) كيف يغيب عني بدون إذن؟ ((لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ)) وهذا التهديد لهذا الطائر كان بحكمة من سليمان عليه السلام ، فترك مجالاً للعذر، فالغائب قد يكون معه حجة؛ ولذلك قال: ((أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) ((فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ))أي لم يتأخر في العودة، ثم جاء ليُلقي على سليمان عليه السلام المفاجأة ((أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)) هذا الطائر الصغير أحاط بما لم يحط به، فالقوي يأخذ الدروس من الضعيف، والكبير يأخذ الدروس من الصغير، والغني يأخذ الدروس من الفقير، والصحيح يأخذ الدروس من المريض: ((أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ)) جئتك من اليمن وبخبر ملكة سبأ، ومن مسافة تقارب ألفي كيلو متر، وفي هذا درس عظيم في نقل الأخبار للقائد والتثبت فيه ))إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) المال والسلاح والجنود والحصون، ((وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)) فكرسي ملكها هائل ضخم، فهذا الطائر قدم تقريراً موجزاً لسليمان عليه السلام دون حشو، ولا إطالة، ولاتضليل وهكذا ينبغي أن تقدم الأخبار، ((وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ))جعلها في أعينهم حسنة، وهذا عمل الشيطان ثم أتبع ذلك الخبر ببيان غيرته على التوحيد؛ ((أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (هلا سجدوا لرب العالمين، الذي كل خبيئة في السموات والأرض يعلمهاسبحانه ويخرجها، قال سليمان للهدهد: ((سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)) قبل أن يباغت ملكة سبأ أراد أن يتأكد ويتثبت، وهكذا العاقل بالقرارات المصيرية والكبيرة، فأعطى الهدهد رسالة، وأمره بأربعة أوامر: ((اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا)) ، ((فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ)) , ((ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)) ، ((فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)) أي ماذا سيكون رد فعلهم على الخطاب؟ قال ابن كثير رحمه الله: "فحمله الهدهد، وذهب إلى بلادهم، فجاء إلى قصر بلقيس، إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها، فألقاه إليها، فسقط بين يديها، ثم تولى ناحية أدباً، فتحيرت مما رأت، وهالها ذلك"فجمعت قومها، (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) فالمرأة مهما بلغت ما تستقل بنفسها: لأنه لايفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة. فرجعت إلى المستشارين، والكبراء، والرؤساء، ومن عندها من وجهاء الناس: ((إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ))أي من سليمان، مختوم بخاتمه، مكتوب في أوله: (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)هذا هو المطلوب، بكل قوة وإيجاز ثم الأمر بالإسلام الذي فيه أمهات الفضائل،((يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِيمَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ))وهنالك قالوا: ((نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ)) لا ينقصنا شيء، ((وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ))وإذا أردت القتال؛ فنحن مستعدون، ولكن ((الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ )) قالت : ((إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)) وهذا الظالمون منهم والمتكبرون على الله المعرضون عن شرعه ، الذين جعلوا أعزة أهلها أذلة بالقتل، أوالتشريد أوالأسر، أو بالمعاملة المهينة، وأما أئمة العدل فإن الله يضلهم في ضله يوم لا ضل إلا ضله ، وهنا آثرت أن تأتي سليمان وتهادنه، وتحمل له الهدية بقولها ((وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ)) وهذه هي المصانعة والمهادنة، وهذا من حسن تدبيرها، جس النبض بهدية أولاً والهدية تجلب المحبة ((فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)) قال أهل العلم : تجوز قبول هدية الكافرإذا لم تكن فيها مهانة للإسلام، ولا رشوة؛ لأن سليمان عليه السلام لو قبل الهدية، وسكت عنهم، وأبقاهم على الشرك من أجل الهدية، ولم يحاربهم لأجل الهدية؛ فهي رشوة عظيمة، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا بالأمن والإيمان يا رب العالمين، واغفر لنا يا رحيم يا رحمن.أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.الخطبة الثانية:الحمد لله على احسانه ...عباد الله / ولم أتى الرسول بهدية ملكة سبأ قال سليمان عليه السلام ((أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)) ((ارْجِعْ إِلَيْهِمْ)) ارجع بالهدية، ((فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِ جَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ)) ((قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ))أي أراد أن يكون لها شيء تراه تستسلم به لله بعد قدومها إليه((قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ)) وهو القوي المارد)):أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)) أي آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك،وهذه المسافة أربعة أشهر سيراً بالدواب -شهران ذهاباً، وشهران إياباً- مستعد هذا العفريت أن يقطعها، ويأتي بالعرش على ثقله قبل أن يقوم سليمان من مقامه، ((قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ)) وهو أحد الصالحين كان يعرف اسم الله الأعظم كما ذكره كثير من المفسرين (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) عجباً لهذه السرعة! وقد فعل ذلك حقاً، ((فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ )) ونُصِب العرش، وجُعِل عليه تغييرٌ، قال سليمان عليه السلام)) نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ))ولما جاءت سُئلت ((أَهَكَذَا عَرْشُكِ)؟ قالت: ((كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)) فلما رأت عرشها رأته أمامها لتستسلم تماماً، وتعلم الآن أن القضية ليست قضية بشرية؛ لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن آتى الله سليمان عليه السلام هذه القوة ما قدر على جلبه، وجُعل لها الصرح الممرد من قوارير -من الزجاج-، ((قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ)) والماء العظيم، وهذا الزجاج الشفاف فوقه، كشفت عن ساقيها ظناً أن ثيابها ستبتل، فـ((قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ)أي أملس- مِن قَوَارِيرَ)) من زجاج؛ فلا حاجة لرفع الثياب، فاستسلمت تماماً، وعرفت الآن قدرة الله تعالى، فقالت عند ذلك مستسلمة ((قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) ظلمت نفسها بماذا؟ بالشرك ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) وهكذا -يا عباد الله- ينبغي علينا أن نستسلم لله الواحد القهار، وأن نعود إلى ربنا سبحانه، وأن نتوب إليه، وأن نعلم قدرته، وأنه عز وجل القوي على كل شيء قدير، وأنه سبحانه وتعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء .هذا وصلوا على البشير النذير ، والسراج المنير ، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير ، فقال جل من قائل عليما : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وفي الحديث الصحيح ، قال صلى الله عليه وسلم : (( من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشرا ))
المفضلات