ما ان اخذه اباه ووضعه في حجره حتى بدأ الطفل بالبكاء والصياح المستمر .. ما جعل امه ان تبادر بأخذه من بين يدي والده , لتبتعد به الى النافذه وهي تربت خفيفاً على ظهره حتى تعود اليه الطمأنينة والهدوء .. لقد كان الطفل سعيداً لعودته لامه فهو يعلم أن ما سيجده عندها لن يجده عند ابيه !!
لكل مرحلة همومها .. وفي مرحلته تلك فكل همه أن يشبع بطنه وان يجد حضناً حانياً دافئاً وحناناً لاماً لكل جزء من جسده , هذا الهم مشترك بين هذا الطفل الوردي وأي مواطن رمادي اللون مع الفارق في موضوع الدفء والحنان.
عوداً لهذا الطفل .. فما ادراه عن اباه , فوالده قد طأطأ برأسه آسفاً منكسراً , لكنه عاد مرةً أُخرى ليداعب ابنه ويتلمس اطراف اصابع يديه وقدميه وهو بين يدي امه .
لقد كان ذلك مشهداً من مرحله من مراحل حياة رجل يتلكع في مشيته نحو المستقبل فهو لا يريد ان يتعب نفسه بعناء السير الجاد .. ولم يفعل ؟! فقد جاد المستقبل بنفسه , وهاهو يهرول اليه قادماً غير مبال ولا حذر لمن هم في طريقه .. بل الحذر من أن يتأخر على صاحبه !!
في مشهد آخر .. جلس اباه في خلوته اليومية في غرفة المكتب , التقط الجريدة ثم اخذ يبحث كعادتة عن موضوع معين يجده دائماً في مكان معين , حيث ثمة لقاءات ومشاريع واستقبالات وزيارات يومية كان قد قام بها ثم أراد ان يعرف خبر الغاية والهدف من ما قام به !!
بعد ان مر على كل اخباره الدائمه والمتكررة رمى بالصحيفة جانباً , ثم فك القيود عن تفكيره ليبحر اينما شاء من دون هدي ولا رشاد . فهذه اللحظات النادرة بالنسبة لمسؤول , يلجأ اليها دوماً اهل العامة حيث يرونها لحظات اماني وتخيلات .. بينما هو يراها فترة راحة ونقاهة لعقله .
لكن عيناه قد وقعتا على خبر ما في تلك الصحيفة , فتنبه عقله من حالة انعدام التفكير , ليأتي معيناً ومستطلعاً لما تراه العين .
كن معي ان كنت شغوفاً اخي القاريء , ولننظر من تلك الزاوية التي ينظر منها هذا الرجل , اظن أننا سنقف عند خبر صغير قد وُضع في زاوية مهملة لا يكاد المرء يراه لكي يكترث به وبمعاناة اهله . ربما وبما اننا من اهل العامه فقد يكون هذا ما وقعنا عليه من تلك الزاوية , اما هو وهذا من ما يمتاز به اهل الخاصة , فقد كان يعتلي هذا الخبر الصغير .. اعلاناً تجارياً كبيراً قد أُغرق بالالوان المميزة والبراقة ليحكي عن الطعم الذيذ والمقرمش لاشهى انواع الدواجن .. في حين ان الخبر الصغير يحكي قصة .. مواطن , قد قرمشته الحياة وانهكته وهو يبحث عن علاج لابنه الوحيد المصاب بمرض عضال .
نعود الآن لموقعنا كي نكمل المشهد , حيث دخلت عليه زوجته غاضبة وهي ممسكة بيد ابنها الذي كانت الدموع تصب من عينيه بغزارة . وبما انها الاقرب لولدها والناقل الرسمي لهمومه وشؤونه , فهاهي تُخبر زوجها عن ذلك المعلم الجاهل الذي ظلم ابنها في امتحانه الشهري وما قدر رقة ابنها وهشاشة الاحساس لديه ..
وما سكتت إلا بوعد نافذ من زوجها بأن يُلقن المدرس درساً يكون فيه عبرةً لغيره من المعلمين في جميع المدارس ولجميع المراحل ولجميع السنوات التعليمية القادمة.
كمتابعين من هنا للحدث .. فلا يجب ان نُشغل بأمر الطالب ان كان مظلوماً او لا .. ولنسأل الله جميعاً أن يكون عوناً لذلك المعلم .
فترة المراهقة كانت متخمة بالاحداث .. فهو الآن يتحير من رؤية مواطن عادي يجلس في نفس المقهى الذي يجلس هو فيه , وهو يسأل في قرارة نفسه .. هل هذا من العدل بشيء ؟! ما الفارق اذاً بين صاحب العيش الرغيد وبين الكادحين في الأرض بُغية الاستمرارية في العيش الزهيد ؟!
فتعريف المواطن بالنسبة له , انه كائن مدين .. يقتات على الفتات .. ينام والهموم تنام بجانبه لتوقظه في الصباح الباكر حتى ينطلق سريعاً باحثاً عن ما يزيل بعضها عن كاهله ..
نظرة المواطن للحياة يجب ان يوصلها لاطفاله .. فهو يعلم حدوده العلوية .. والسعة التي يمثلها في الحياة .. قد قنع بما رُسم له من طُرق وما كُتب له من طَرق .. فهو ان لم يكن ليقدر حقيقة جوهره .. فهو يعي صفة معدنه !!
فالمواطَنة والمواطن في نظر هذا المراهق هو ان المواطن شحاذ والمواطَنة هي الشفاعة التي يتلمس بها المواطن ما يُتم به شحاذته !!
وفي سبيل تبديد هذ التحير وتلك التساؤلات .. ينصحه والده بأن لا يتجاوز الحدود التي رسمت له وقُدرت بل وقُررت .. وعليه ان لا ينزل عن مستواه لمن هم اقل منه شأناً , وليدمج حياته مع اقرانه المشابهون له حالةً ووضعاً ووجوداً ..
الآن وفي مشهد آخر فهو مسؤول كما رُسم له .. ومسؤوليته هي ان يرتقي بالمواطن في سبيل رُقي الوطن , وان يهتم بشؤونه وان يوفر له ما تتطلبه الحياة من اساسيات المواطنة في ما يختص بحدود مسؤوليته إن كان علاجاً او معاشاً او غيره .
فأين المواطن .. وعجلة الزمن تُعيد المشاهد كلها مرةً أُخرى .. ومن تحلقوا حوله زمن الطفولة وزمن الصبا حفاظاً عليه وحمايةً لحقوقه .. ها قد تحلق حوله اناس غيرهم وهو مسؤول , فما كان يرى عبر هؤلاء مشهداً ولا موقفاً ولا امراً إلا ما كان يعجبه .
ليبحث المواطن عن ما يحتاج اليه , فإن وجد ضالته فبها واهلا , وإن لم .. فليستمر في امره ما شاء الله ان يستمر .. فلهذا سمي بالكادح المحتاج .
ولنا ان نسأل .. عن فائدة المسؤول إن كانت المسؤولية قد خُصصت لخدمته وراحته ورفعة شأنه فوق العلو الذي ولد فيه ؟!
إن أردت أن تتابع ما يأتي من مشاهد .. عُد الى بداية هذه الصفحة !!
المفضلات