في كل مرة تتأمل فيها العلاقات الإنسانية والخطى البشرية يتملكك العجب. وتجد نفسك تدريجياً تميل أو توقن بأن الإنسان بطبعه ميال للانقياد والتبعية. ففي كل مجموعة لا بد من فرد أو فئة، تقود وتحكم لتسيطر وتقرر. إنها غريزة، غرزها وأبدعها الخالق في جميع مخلوقاته ليضمن لها الاستمرارية في منظومة هو قائدها ومسيرها.
هذه المعلومة أو اليقين موجودة في رأس كل فرد منا، دون أن يعيها أو يحس بها، إلا أنها تسيره مهما بلغ رقيه وريته أو انحلاله.
ولو تتبعنا الخطوات البشرية على مر العصور، في تبنيها لقضاياها وشؤونها المعيشية والروحية أو الفكرية، نجدها تتطور من عصر لآخر، في قدرتها على الاستقطاب والتأثير على أكبر قدر من البشر.
ولو ابتعدنا بشكل جزئي عن المفهوم الدقيق أو المحصور للقيادة، وعممناه إلى مستوى الجماعات والشعوب والأمم،وبتصفح بسيط لوريقات التاريخ المتسلسلة تتضح لنا الرؤيا، ففي الحقب الزمنية البعيدة والتي تصل للمئات والألوف، كان للخطابة والخطب تأثير كبير، وقدرة على التغيير وتوجيه عامة الناس، فخطيب بارع مفوّه واع ومؤمن بضيته، بإمكانه أن يحمس آلاف وملايين البشر ليقودهم نحو قضية يؤمنون بها، وربما يجهلون بواطنها وطبيعتها إلا أن سحر ذلك الخطيب وكلماته قد أبهرت عقولهم واستولت على وجدانهم لتقودهم نحو الهدف.
ومع تقدم الزمن وتطور آلياته ووسائله أخذت الصحف والمنشورات سطوتها في التأثير على فكر ومشاعر العامة بعد تزايد عدد القارئين والمثقفين في المجتمعات والتجمعات البشرية، بعد أن أصبح للفكر والعلم قدره وقوته التي تفوقت على قدرة السلطة والقوة بمعناها البدني. وظلت الصحف متربعة على عرشها بالرغم من تطور الحياة العصرية ومنافسة وسائله المختلفة والتي من أهمها المذياع، فتربى لدينا جيل لا يستطيع أن ينام أو يغفل له جفن قبل أن يقلب موجات المذياع ويستمع لأخباره والآراء والقضايا التي تطرح عبر موجاته.
أما التلفاز فقد ظل بعيداً عن المنافسة مقترناً بالتسلية والترفيه إلى أن استخدمت الأقمار الصناعية وانتقلت ملكية بعض محطاتها من المؤسسات العامة إلى الأفراد ليبدأ عهد جديد، يلعب التلفاز فيه دوراً أكثر خطورة بإثارته لقضايا جدلية ما كان من الممكن طرحها، وباستضافته لأناس ما كنا نسمع بهم، أو نعلم عن مبادئهم شيئاً.
وبالرغم من ظهور شبكات الإنترنت خدماتها المتعددة والمتفوقة، ظلت المحطات الفضائية في بعض قنواتها تحصد نقاطاً، وتقدماً أكبر لتكسب مشاهدين وربما زبائن أكثر!!
وهذا الدور الحساس والدقيق الذي بدأت تأخذه القنوات الفضائية سواء الإخبارية أو الحوارية، ربما يكون أكثر إفادة في المجتمعات المتطورة المتوازنة والتي تربت على المصداقية في الحوار والأمانة في الطرح والتعبير بعيداً عن العواطف المشحونة والنعرات القبلية والشعبية.
أما مجتمعاتنا العربية المعاصرة التي نشأت على الانغلاق والممنوع وظلت إلى أمد غير بعيد لاهية في قضاياها الجانبية محاولة اللحا بركب الحضارة، عن طريق التقليد الكامل والمحاكاة، للحضارات البعيدة المتقدمة، والتي كانت سبباً في ما تعانيه الآن من انشقاق واضح في الكثير من طبقات مجتمعها الفقيرة والغنية، ونزعاتها الجامحة للتطرف والانسياق مع تيار الحضارات المتقدمة أو الحضارات السالفة، في انجراف مدمر بعيد عن الوسطية والعقلانية، يكاد أن يمزق أمتنا العربية إلى اشلاء واهنة مخزية. وفي الكثير من القضايا التي تطرحها فضائياتنا العربية وتدعي أنها مصيرية وكيفية تفاعل بعض المشاهدين أو المتابعين لها والمتحاورين فيها وطريقة تعاملهم مع الموضوعات المطروح وفهمهم لها، وللحرية المتاحة لهم في مناقشتها يظهر الشرخ!!
وكلما شاهدت بعض هذه البرامج الحوارية المباشرة يأسرني الأسى مما تحتويه من فهم خاطئ بطبيعتها والأهداف المرجوة منها، والمغالطات الكبيرة التي تصدر من مقدميها ومعديها أو المشاركين فيها والمتصلين بها من جرأة غير مستساغة تصل إلى حد الوقاحة والتجريح، بعيداً عن آداب الحوار الهادف الناضج، إلى التعدي الواضح والصريح لكثير من الثوابت والقيم التي يفترض من الإنسان احترامها . أما ما نشاهده على بعض القنوات الفضائية (المستقلة) بفكرها الناشزة في منحاها ورأيها، منتحامل وتجريح عقيم، ودس، ونبش في قضايا فردية مسلّمة أو جانبية وتعميمها بما تحويه من تحريض بغيض، وتوجيه مدسوس وحاقد بعيد كل البعد عن المصداقية والأمانة، لشيء مخجل حقا وكفيل برفع الضغط وإعلان الاستياء من البعيدين عنها وقبل المتلقين لها.
وإنما العتب كل العتب على مثقفي وحكماء أمتنا العربية والإسلامية الذين سمحوا للمضللين أو المذبذبين من مثقفين ومستثمرين ومرتزقة للتلاعب بعواطف وأفكار العامة البسيطة المستاءة أو المندفعة وتولي دفة القيادة في التوجيه والتثقيف، بعد أن كان ذلك المركز وتلك السلطة رفيعين إلا عن منيستحقها أفراد أو جماعات، فإلى من يا ترى نرسل العتب؟!
منقول د/ شروق الفواز
المفضلات