الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ....
عنوان السعادة
ذكر ابن الإمام ابن القيم رحمه الله أن عنوان سعادة العبد ثلاثة أمور وهي أنه إذا أنعم عليه شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر.
قال فإن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه ولا ينفك عبد عنها أبداً فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الشكر على النعماء
الأول نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدها: الشكر
أركان الشكر: والشكر مبني على ثلاثة أركان الاعتراف بها باطناً والتحدث بها ظاهراً وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الصبر على البلاء
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها ففرضه فيها الصبر والتسلي.
أركان الصبر: والصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن المعصية كاللطم وشق الجيوب ونتف الشعر ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة فإذا قام بها العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة. واستحالت البلية عطية وصار المكروه محبوباً.
حكمة البلاء
فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء كما له عليه عبودية في السراء، وله عليه عبودية فيما يكره كما له عليه فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تفاوتت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية هذا الوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية ونفقته في الضراء عبودية ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبداً لله في الحالتين قائماً بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36] وفي القراءة الأخرى عِبَاده وهما سواء لأن المفرد مضاف فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
إغواء الشيطان
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلم عباده إليه ولا يسلطه عليهم: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:83،82]. وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ:21،20].
فلم يجعل لعدوه سلطاناً على عباده المؤمنين فإنهم في حرزه وكلاءه وحفظه وتحت كنفه وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل فهذا لا بد له منه لأن العبد قد ابتلي بالغفلة والشهوة والغضب ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة ولو احترز العبد ما احترز فلا بد له من غفلة ولا بد له من شهوة ولابد له من غضب وقد كان آدم أبو البشر من أحلم الخلق وأرجحهم عقلاً وأثبتهم ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه فما الظن بمن عقله في جنب عقل أبيه كتفلة في بحر؟
نعمة فتح باب التوبة
الثالث: التوبة والندم: فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجوء إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته حتى يقول عدو الله يا ليتني تركته ولم أوقعه وهذا معنى قول بعض السلف إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار قالوا كيف قال يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفاً منه مشفقاً وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.
آفة العجب والغرور
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت فيورثه ذلك من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه فإذا أراد الله بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به ويذل عنقه ويصغر به نفسه عنده وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
علامة التوفيق
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق ألا يكلك الله تعالى إلى نفسك والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين ولا يمكنه إن يسير إلا بهما فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: (العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل).
وهذا معنى قوله في الحديث الصحيح: { سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت } [رواه البخاري].
فجمع في قوله : { أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي } بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت.
المفضلات