عبدالكريم كاظم
بات من الأهمية بمكان الاهتمام بالمستقبل على جميع الصعد والسعي لكسبه إلى جانب الحق الثقافي، وستبقى هذه المهمة من أولويات المثقف العضوي طالما بقي الأحتلال وتعذّر الوصول إلى جهد كبير وشامل لخروجه والواقع أن هذه المهمة قد تركت وتترك آثاراً عميقة على الحياة السائدة ـ خصوصاً الثقافية ـ في البلاد، وهي بمعنى معين تمثل وجهي صراع بين الطرفين وفق حاجات ومصالح وغايات كل منهما .. غير ان مأزق الثقافة وما تشهده اليوم من إخفاقات أواشكاليات فضة لا يعزى إلى المحتل وحسب ـ رغم خطورته ـ بل ينبع بالدرجة الأولى من مواطن خلل داخلية معروفة وقصور كبير من تلمّس المنهج السياسي السليم ورسم السياسيات الصحيحة وما تتطلّبه من ضمانات وآليات مؤسسية، ففي أعقاب هذا الخراب الهائل .. هذا الكشف الفاضح، لم يعد أمام المثقف ثمة خيار آخر تتداخل وتتفاعل فيه العوامل الخارجية والداخلية المؤثرة في سير الأحداث المختلفة الجارية الآن في البلاد والتي تمثل مفاصل حاسمة في صلاتها المتنوعة اذ لا ريب في أن أحوال البلاد العامة تدعو لقلق شديد وتُنذر بعواقب أخرى أضافية غير حميدة في المستقبل ما لم تطرأ عوامل ومتغيرات جديدة جدية من شأنها أن تُحدث انعطافاً جديداً ومختلف نوعياً في مجرى الأحداث، ومن الجدير بالذكر أن هذا المثقف الساخر أو الساخط يستنبط صور ومشاهد قصصه أو كتاباته من الواقع الخرب ومن الدمار وكذلك من الموت .. صحيح أن الساحة الثقافية العراقية عرفت سابقاً بتخلفها أشخاصاً وأدوات وأهدافاً ولكن هذه الثقافة صنعها السياسيون المتخلفون أصحاب الأيديولوجيات والشعارات البليدة التي تبنتها الأنظمة والمؤوسسات وساندها الكثيرون منهم بل كانوا غالباً هم السبب في تثبيتها وتركيزها عن (حسن نية) مخدوعين أو عن طموح سياسي أو منصب وظيفي .

إن مسألة الثقافة ،في جميع مراحلها، هي مسألة خطيرة جداً وحساسة ولكي نستطيع أن نقيم العلاقة بين الثقافة والتغير، بكافة أشكالهما، يجب أن نتعرف أولاً على واقع الثقافة نفسها ذاك لأن واقعها لا يمكن أن يكون بعيداً عن المتغيرات التي تحصل في كل مكان وزمان، أن الثقافة لا يمكن ان تشكل عامل تغيير جذري دون أن تتجاوز ذاتها بنفسها وبشكل متواصل ومتصل إذ ان عملية التجاوز هذه لا يمكن أن تتم إلا على أنقاض الثقافات الأخرى الماضية وهنا أود أن أتوقف قليلاً عند مسألة ثقافة التغيير التي تختلف عن ثقافة التزوير بقدر ما يحمل مصطلح ثقافة التغيير ،حصراً، أشكالاً منهجية علمية معرفية رصينة تقف بالضد من ثقافة التزوير التي تحمل معها شعارات مبطنة مستهلكة وتعسفية تستهدف لحظة معينة مربكة بينما المراد من التغيير بناء ثقافة تأسيسية لمرحلة قادمة كاملة تحمل أيضاً مضامين تشكيلة أقتصادية أجتماعية وتصبح بديلاً عنها بمعنى آخر إننا مطالبين بخلق المثقف العضوي كما يقول (غرامشي) والثقافة المتحررة اللذين يطرحان سؤال الثقافي مثلما يطرحان سؤال السياسي ويدعوان في ذات الوقت للتعامل مع الثقافة، بمفهومها الشامل، على أنها ثقافة جادة تؤسس لمرحلة حقيقية آتية لا ريب فيها .. من هنا نكرر السؤال الذي نطرحه دائماً : إلى متى نظل ننتظر قدوم السياسي، إلى متى يظل المثقف يسلم أموره إلى أناس لا علاقة لهم بالثقافة ؟ مع العلم أن ثقافتنا ليست بالطارئة ذاك لأنها لا تفتقر إلى التجارب المتراكمة، الكبيرة والمنضويةً ضمن إطارها النظري الذي يحكمه التجريب ويمنحها أستقلالية نستطيع من خلالها أن نرى ما هو متحقق قبل تحققه وهكذا تتحرر الثقافة من الجمود الذي يرى في كل حركة تجديدية ذات صبغة حداثوية حركة مضادة تقترب أكثر فأكثر من جميع الحضارات الإنسانية الأخرى .

أقول ببساطة متناهية : المثقف العضوي هو نقيض المثقف الطارئ الذي يريد أن يسود ثانية لأن أي نظام قمعي يسقط أو ينهار قد تتشكل له أو تبقى لديه بعض الجذور التي تحاول تشكيل وإحياء حلقة جديدة يستفيد منها كل الطارئين ،القدماء والجدد، لصياغة أو استعادة برامجهم الثقافية التعبوية القديمة التي ستزداد توحشاً واستغلالاً مازال الفكر القمعي هو المعبّر الحقيقي عن النظام القمعي الذي يحقق الإقصاء والتهميش وإلغاء كافة علامات المستقبل الثقافي المتحرر من كل أشكال القيود أو السطوة، هذه العلامات المستقبلية ستتجاوز مرحلة التمايزات الفئوية المرتبطة بالصوت الواحد وسوف لا يمكن إيقافها بأية حجة كانت والحديث عن المستقبل الثقافي حديث طويل لا مكان له في مقالتنا هذه إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أن دلالة مفهوم المثقف العضوي في الحقل الثقافي المستقبلي سيختلف عنه في كل الحقول الأخرى وبالتأكيد إن فهمنا له بطريقة تجريدية سيؤثر أيضاً ،بشكل إيجابي، على طريقة تعاملنا مع المستقبل المنظور والمرتجى والمؤمل .. أن حزمة عريضة من التحديات والمهمات والقضايا تنتصب على أرض الواقع الثقافي اليوم وفي أفق المستقبل بما فيها تلك المتعلقة بتجديد الفكر وصوغ نظرة ثقافية مستقبلية نفاذة ومدروسة ومحررة من أغلال الجمود والدوغمائية والمسلمات البالية، إنها رسالة خطيرة جداً تستلزم دراسة الواقع ومعضلاته بأسلوب علمي موضوعي، وتتطلب اعتماد مقاربات مرنة ومفتوحة بطلاقة ومن غير عقد وأحكام مسبقة على روح العصر وإنجازاته المذهلة والتكيف مع معطيات ومتغيرات الثورة المعلوماتية الجبارة .. ثورة العلم والمعرفة والتجديد بجميع مجالاتها وأبعادها ودلالاتها ... لبلوغ هذه الأحلام الكبيرة، تحتل مسألة الثقافة والمشاركة الجماعية، لا الفئوية أو المناطقية، الموقع الأول في المساعي والخطط لإنقاذ المجتمع العراقي من كبوته وعذاباته، وهنا يتعين أن تتركز الجهود على المثقف العضوي الفاعل لإقامة ونشر الثقافة الديمقراطية المعبرة عن الإرادة الحرة للمجتمع الملتزم بدستور الدولة المستقلة ـ لادستور نوح فليدمان ـ الذي يحرص على سلطة القانون وتوفير الحريات الحقيقية للعراقيين ويحترم حقوق الإنسان العراقي ومؤسسات المجتمع المدني ويتفاعل معه/معها كشريك حقيقي في إدارة شؤون البلاد وتنفيذ برامج الثقافة التنويرية المستقبلية الفاعلة .

2007/3/24