:
:
:
قبل الانتخابات الأمريكية بساعات صدر القرار (الأمريكي) بقتل الرئيس الشرعي للعراق صدام حسين، ليكون مفاجأة لمن كانوا يتوقعون قبلها تأخر صدور قرار الإعدام حتى انتهاء كل "ملفات" القضايا التي رتبها الأمريكان لإطالة أمد اللعب بتلك الورقة، وحتى يتم توزيع دم الرجل على أطياف العراق وفق قضايا متعددة منها ما هو متعلق بالشيعة ومنها ما هو متعلق بالأكراد ..وهكذا.
وإذ جرى تفسير الأمر على أنه محاولة من الإدارة الجمهورية والحزب الجمهوري، لتحسين الصورة أمام الناخبين الأمريكيين، فإن آراء أخرى ذهبت إلى أن القرار يأتي متناقضًا مع التصريحات الأمريكية بضرورة "الحوار" مع "المسلحين" ـ حسب وصفهم للمقاومة ـ بهدف إخراج الأمريكان من مأزقهم الراهن، ومع ما جرى من تراجعات في قانون اجتثاث البعث في الفترة الأخيرة. كما ذهب بعض ثالث إلى أن القرار جاء ضمن إطار التفاوض نفسه لا خارج إطاره، وأنه يجب التفرقة بين صدور القرار (في صورة حكم قضائي) وتنفيذ القرار. وفى كل ذلك أجمع المحللون على أن القيادات الشيعية المتعاونة مع الاحتلال ترغب أكثر من غيرها في تنفيذ حكم الإعدام.
وبعد انتهاء الانتخابات الأمريكية، التي كان مأزق القوات الأمريكية في العراق هو ما غلب الديموقراطيين فيها على الجمهوريين ـ أو هو ما أسقط الجمهوريين، ومن بعد هو ما أطاح بوزير الحرب الأمريكي دونالد رامسفيلد ـ فإن الأسئلة تتجه الآن إلى ما سيفعله الديموقراطيون في العراق عامة وبشكل خاص تجاه قضية إعدام الرئيس العراقي، في ضوء تصريحات الرئيس الأمريكي ـ بعد أن كسرت أنفه ـ بأنه منفتح على أية أفكار بشأن العراق، وبالنظر إلى تصريحات الديموقراطيين حول الانسحاب من العراق ففي كل ذلك يكون السؤال المنطقي هو: هل يشمل التغيير في السياسة الأمريكية في العراق تحولاً باتجاه آخر خلاف قتل الرئيس العراقي، وإذا ما حدث هذا التغير فما هو موقف القيادات الشيعة المتحالفة مع الاحتلال في تلك اللحظة؟
أصل القضية:
في أصل القضية، فإنه ليس بغريب على القيادة الأمريكية الحالية أن تستخدم "القتل" لصدام أو غيره وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية الاستعمارية، حيث إن كل القيادات الرسمية الأمريكية ـ من كلا الحزبين ـ عبر كل تاريخها منذ تشكلت الولايات الأمريكية، قد مارست أوسع عمليات "القتل المنظم" بحق الأفراد والجماعات الشعوب، امتدادًا لما بنيت عليه الدولة الأمريكية من عملية إبادة لحضارة كاملة عند تأسيسها، كانت للهنود الحمر في "الأرض الجديدة" وقد بلغ عدد قتلاهم على يد المستعمرين المؤسسين ما يفوق 100 مليون إنسان، فتلك القيادات الأمريكية ذات خلفيات "حضارية"، "تؤمن بالقتل" ـ ولا نقول تستبيح ولم نقل تبرر القتل ـ وسيلة "مثلى" لتحقيق أهدافها العدوانية والاستعمارية. السجل مليء بما لم يجر عبر كل التاريخ البشرى إلا على يد تلك القيادات ـ بما في ذلك النازية والفاشية ـ وبكل وسائل الفتك والإبادة، وبأشدها حصدًا لأرواح البشر دون تمييز، كما الحال في استخدام الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية ضد كثرة من شعوب الأرض.
وفي أصل القضية أيضًا، فإنه ليس بغريب على "القيادات الشيعية المتعاونة مع الاحتلال" أن تبارك هذا القتل لصدام، وأن تطالب الجمهور الشيعي المرتبط بها أن يرقص طربًا بمناسبة صدور قرار القتل، وأن تطالب حتى تكتمل سعادتها، أن يكون القتل وفق أشد الطرق همجية عبر التاريخ (قتل في الشارع وبأيدي الآلاف (كما طالب أحدهم)، فتلك القيادات كانت هي من انتهز فرصة العدوان الأمريكي على العراق في عام 1991، لقتل الجنود العراقيين العائدين من القتل والمجازر الأمريكية في جنوب العراق، فيما سمي بانتفاضة الجنوب. مثلما يحدث الآن من التصفية لرجال المقاومة في العراق ولأهل السنة على الهوية على يد العصابات المسلحة تحت قيادتهم، وكذا التعذيب حتى الموت ورمي للجثث في الشوارع (الجثث المجهولة الهوية التي ترمى في الشوارع والترع والأنهار وحتى في مناطق رمي النفايات في كل ليلة)، هو كاف لإظهار كيف ولماذا كل هذا الفرح الغامر للحكم بقتل الرئيس العراقي، صدام حسين.
لهذا وذاك، فإن السؤال في قضية الحكم (إصدار القرار) بقتل الرئيس العراقي صدام حسين، لا يعني استفسارًا أو تعبيرًا عن دهشة، كما هو لا يعني تساؤلاً عن حدث هو خارج سياق العقل والممارسات الأمريكية أو لقادة الشيعة المتعاونين مع الاحتلال، وإنما القصد منه، أن نحاول فهم كيف يوظفون القتل ـ أو قتل النفس ـ لخدمة أهدافهم .. هذا الطرف أو ذاك.
ولقد جرى الاهتمام في بحث كيفية توظيف القتل أو النطق بالحكم بالإعدام على الرئيس الشرعي للعراق، من زاوية التوقيت المتعلق بموعد إجراء انتخابات تجديد مجلس النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، وجرت الإشارة إلى توظيف الرئيس الأمريكي والإدارة الجمهورية توقيت إعلان قرار (قرار وليس حكم) إعدام الرئيس العراقي من أجل نيل الحزب الجمهوري مقاعد أكثر ـ وهو ما لم ينقذ الحزب الجمهوري الذي خسر مجلسي النواب والشيوخ دفعة واحدة ـ لكن الأمر الأصلي في تلك القضية هو أن قتل صدام كان هو طريقة للحصول على أصوات الناخبين، وفق تقدير بأن الجمهور الأمريكي يعطي أصواته لمن يقتل عربيًا أو مسلمًا، ومن ثم فالقضية الأصل هو أن هذا الشعب "يكافئ القاتل بالتصويت له في الانتخابات إذ القاتل يكسب!
وفى ذلك يتضح أن القضية هي "قضية الحضارة الغربية" إذ ليس القادة وحدهم هم من يستخدمون "القتل" وسيلة لتحقيق الأهداف الاستعمارية فقط، وإنما الشعب أيضًا هو من يكافئ القتلة بإعادة انتخابهم ليمثلوه في المجالس النيابية، وحيث هذا الشعب هو من يطلب من ممثليه أن يكونوا الأشد دموية وعدوانية ضد الآخرين. وواقع الحال، أن الأمر لا يتعلق "بالشعب" الأمريكي، بل هو ظاهرة تتعلق بالبعد الحضاري والديني لمن يقتل!
وواقع الحال أن الأمر نفسه هو نفس ما يجري، في فلسطين المحتلة، إذ يحاول "أولمرت" الآن ورفيقة في عصابة الحكم عامير بيريتس وزير الدفاع ـ في نفس توقيت صدور قرار قتل صدام ـ أن يحسن صورته ومستوى شعبيته أمام ناخبيه الصهاينة بتصعيد المذابح ضد الشعب الفلسطيني، ليصبح بطلاً لدى قومه، وذلك في تكرار للسيناريو الدائم حيث حاول بيريز من قبل الحصول على رئاسة الوزراء بقتل اللبنانيين في مجزرة قانا، كما الحال عند شارون الذي صار بطلاً قوميًا لدى الصهاينة بحكم أنه أكبر السفاحين في تاريخ الشعوب.
وفى كل ذلك إذ جرت وقائع بعدم تأييد الناخبين لمن بيدهم دماء ساخنة _ بيريز أو الجمهوريين ـ فإن ذلك قد جرى لأن القتلة قد تسببوا في خسائر لشعوبهم خلال عملية قتلهم للآخرين، إذ هذه الشعوب تريد من القائد القاتل أن يقتل الآخرين دون خسائر لشعبه. فلم يرفض الشعب الأمريكي تفويض الجمهوريين مجددًا لأنهم "قتلة"، بل لأنهم تسببوا بقتل كثرة من الجنود الأمريكيين في العراق أكثر مما ينبغي!
كما جرى الاهتمام من بعض ثان تعرض إلى مسألة تواطؤ الحكم الراهن في العراق فشددوا على دور القيادات الشيعية المتعاونة مع الاحتلال في الوصول إلى هذا القرار أو بالأحرى في تقديم الغطاء السياسي والجماهيري للاحتلال داخل العراق، بينما هذه القيادات هي التي وفرت مثل هذا الغطاء للاحتلال في احتلال العراق كله وفى قتل ما يقرب من ثلاثة أرباع المليون عراقي، ومن ثم هي لا تتورع بل ترغب في تقديم مثل هذا الغطاء السياسي للاحتلال في قتل صدام لتحقيق أهدافها.
كما جرى الاهتمام من قبل بعض ثالث لإثبات عدم حجية المحكمة والمحاكمة أو قرارها لعدم قانونية ما جرى كله، وباعتبارها خاضعة للقرار السياسي الأمريكي والقرار التنفيذي لأدوات الاحتلال في العراق فظهر هؤلاء المنشغلون بمظهر من يحاول إثبات ما هو مثبت بالفعل، حيث لا إمكانية أن تكون هناك محاكمة عادلة في ظل احتلال، كما هو حدث لم يجر أبدًا في تاريخ احتلال أي بلد في العالم، فلم يركزوا على القضية الأصل وهى أين هو هذا العالم "المتحضر" الذي يقبل كل ما يجرى من جريمة تمثيل سياسي بحياة إنسان آخر، قائد لبلده، وأين هي مواقف ممثلي الحضارة الغربية من هذا القتل الممنهج في العراق.
القضية الجوهرية في قرار إعدام الرئيس العراقي صدام حسين هي قضية حضارية تتعلق باستخدام القتل وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية العدوانية، والسؤال المحوري الآن وفي ضوء التغييرات التي جرت في الولايات المتحدة هو: هل يجد الاحتلال وقيادات الشيعة المتعاونة معه أن من مصلحتهما سياسيًا ما بعد هذه التغييرات الاستمرار في خطة قتل صدام، أم أن تغيرًا سيطرأ على هذا القرار، وما هو المشترك والمختلف عليه بين الطرفين في هذه القضية؟
الموقف سابقًا:
لفهم ما ستحدثه التغييرات الحالية، يجب أن نعود أولاً إلى أهداف كل من الأمريكيين والعملاء من العراق لقضية قتل صدام حسين، حيث إن هناك ما هو مشترك بين رؤية وأهداف كل منهما، كما أن هناك تمايزًا لدى كل طرف عن الآخر.
لقد كانت الأهداف الأمريكية من قتل صدام وبعيدًا عن قضية التوقيت، بالأساس محاولةً لتأكيد نهاية حقبة استقلال العراق ودخوله مرحلة جديدة تحت الاحتلال الأمريكي الدائم، وفى ذلك كان صدام رمزًا لانتهاء الحقبة، كما كانت عملية القتل تستهدف إحداث قطيعة كاملة بين الأطياف في داخل العراق؛ إذ خطط الأمريكيون لأن يأتي القرار "كعقاب لصدام على جرائم" ضد كل من الشيعة والأكراد وسط وضع سياسي وإعلامي حاولوا من خلاله تحميل السنة كل نتائج حكم صدام، حتى يتحقق للأمريكان فرزًا متزايدًا للأوضاع العرقية والدينية في العراق فيسهل السيطرة عليه.
وكذا كانت الفكرة الأمريكية من قتل صدام هو أن تستخدم ورقة القتل عاملاً في تخويف قيادات النظام الرسمي العربي ليظهر للجميع أن جزاء من يقف في وجه الولايات المتحدة وخططها في الشرق الأوسط الجديد، هو الموت.
أما الأهداف التي رآها المتعاونون من القيادات الشيعية مع الاحتلال في قتل صدام، فهي أن إعدام صدام يجب أن يظهر وكأنه نهاية لحكم السنة وسيطرتهم على العراق، وإعلان بقلب هوية العراق الإسلامية. كما رأوها فعلاً يسمح لهم بالظهور أمام جمهورهم ومناصريهم بأصحاب حق فيما فعلوه من الانحياز للاحتلال والتعاون معه حيث إنهم لم يحققوا شيئًا داخليًا سوى الدمار. وكذا نظر هؤلاء إلى قتل صدام باعتباره تمثيلاً بمن منعهم من السيطرة على العراق وانتصارًا على من منعهم من الالتحام مع إيران ولمن أوقف مشروع المد الفارسي في داخل جسد المنطقة العربية.
غير أن الفارق بين الأمريكان وقيادة الشيعة في مسألة توظيف قتل صدام هو أن الأمريكان كانوا يرون في ذلك ورقة للمساومة مع أطراف داخلية وأطراف عربية، وأن القرار خاضع لتحقيق الأهداف وليس هو الأهم في حد ذاته، وأن عملية القتل يمكن أن تأتي بعد أن يتم تحقيق أقصى الأهداف من محاكمة صدام وأسره. بينما القيادات العميلة كانت ترى أن القتل في حد ذاته ضرورة، إذ بالقتل تتحقق أهدافهم وليس بالمفاوضة أو المساومة معه أو عليه مع أطراف أخرى .
الشيعة أكثر حماسًا؟
القضية الأصل إذن في مناقشة قرار إعدام صدام حسين ومن معه، لا تتعلق بتوافر محاكمة عادلة من عدمه ـ حيث لا شرعية من الأصل للمحاكمة كما التاريخ الغربي كله في الصراعات الداخلية ومع الشعوب هو تاريخ دماء ـ، ولا هي قضية سياسية سواء تعلق بالتوقيت أو بموقف القيادات الشيعية المؤيد والمدافع والموفر للغطاء السياسي الداخلي للاحتلال. لكن التوافق بين الطرفين من توظيف قتل صدام لا شك أنه يختلف الآن بين الشيعة والأمريكان في ضوء التغييرات التي حدثت في الولايات المتحدة وباتجاه الانسحاب. التصريحات الصادرة من قبل المالكي ومن على شاكلته هي الإشارات الأولى على تردد أمريكي وضغط شيعي باتجاه الإسراع بهذا الفعل الإجرامي.
المتابع للتصريحات الصادرة من العملاء الشيعة في حكم العراق، يلحظ أن مادة إعلامية يومية باتت تطلق على أفواه هؤلاء، ليس فقط بالإصرار على قتل صدام وإنما أيضًا على تحديد مواعيد لتنفيذ حكم الإعدام في الرجل، دون انتظار لحكم محكمة في استئناف في الحكم يفترض أنه ما يزال أمامه أكثر من ثلاثة أسابيع حتى يقدم، ويفترض أنه يحتاج إلى وقت طويل حتى يصدر حكم نهائي.
وقد كان الأهم في تلك التصريحات ما أعلنه "المالكي" بأن حكم الإعدام سينفذ في صدام قبل نهاية العام.
وفي الاتجاه الآخر، فإن الضغط الذي أحدثته تصريحات مسئولين دوليين وبعض الخبراء الاستراتيجيين في الولايات المتحدة بات على الأغلب محفزًا بعد وصول الديموقراطيين للسلطة بأن يشمل التغيير في العراق لإعادة النظر في مسألة إعدام الرئيس الشرعي للعراق، باعتباره أحد أوراق التهدئة أو التفاوض مع المقاومة في العراق، وباعتباره أيضًا ورقة في الضغط على العملاء داخل العراق خلال التفاوض على الانسحاب الأمريكي.
وإذا كان الطرفان الأمريكي والعملاء، أصبحا الآن في مأزق في هذه القضية، ولا يظهر حتى الآن إلى أين تصل بهما الأوضاع، فإن ثمة احتمال ينبغي الانتباه له، بأن يجرى في الأمر صفقة سرية بين العملاء والاحتلال، تقضي بأن يجري قتل الرجل في عملية مدبرة خارج إطار المحاكمة تنسب لحالة الفوضى الحالية، وربما يجري توقيتها أو ربطها بالانسحاب الأمريكي لتبدو كعمل فردي تغسل فيه الولايات المتحدة يديها من الجريمة وتستغل فيه حماقة عملاء الاحتلال، ليكون الأمر طلقة البداية لحرب أهلية مستعرة.
بقلم: طلعت رميح 00مفكرة الإسلام
المفضلات