النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: قراءة في رواية " حمى قفار " الجزء الأول

  1. #1
    كبار الشخصيات الصورة الرمزية راعي الوقيد


    تاريخ التسجيل
    12 2003
    الدولة
    الوقيد
    المشاركات
    11,178
    المشاركات
    11,178

    قراءة في رواية " حمى قفار " الجزء الأول






    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    رواية : حمى قفار

    المؤلف : علي محمد الحبردي

    اصدار : النادي الأدبي بمنطقة حائــــل




    في عام 1955- 1956م كنت صبياً يعبث الخيال والذهول بذهني، وتتجاذبني خواطر الدهشة والحيرة بين السعادة والحزن، كان صديقي عبدالكريم الذي كنت ألعب معه وبقية أصحابي أمام بيوت القرية قد تغيب عنا ولم يعد يلعب معنا، سمعتهم يقولون بأن جدته النحيفة التي تقوم برعايته قد ماتت، لقد أصيبت بحمى (قفار) عند زيارتها لابنتها التي تقيم مع زوجها الذي يخدم في فلاحة أعمامه هناك؛ شربت المسكينة من ماء قفار، باعتبار أن جدته لا يضرها ماء (قفار) الموبوء، كما هو معروف الذي يضر الأسياد دون الخدم ، لأنهم يعرفون من أين يشربون، أو.. أو.. وربما!!، أما هي فإنها غريبة، وشربت فظنها الماء من أناس آخرين !!، ولم يخطر ببال أحد عامل السن، أو أي مرض آخر، فما دامت قد زارت قفار فموتها لابد أن يكون بسبب تلك الحمى الخبيثة.
    كانت الحيرة تدير رأسي بين معنى الموت للبشر الذي سمعت عنه لأول مرة، وتحقق فعلاً بموت جدة عبدالكريم ، وبين موت حمار أم حامد قبل شهر، الذي جره أهل القرية بعيداً، وحبلوا فخاخهم حوله لاصطياد الضبعة على (وليشته)(1) !!.
    ولأننا صبية أبرياء لم تنبت في قلوبنا البذور السوداء التي يزرعها الكبار، لذلك لم نجد غضاضة في الذهاب إلى صديقنا عبدالكريم لمواساته، ولمعرفة حاله بعد وفاة جدته، ولأنه لا يلزمنا الاستئذان من أهل الدار، فقد دخلنا إلى داخل المنزل المنزوع الأبواب الذي لا يقيم فيه سوى عبدالكريم ووالده وجدته التي توفيت، فوجدنا صديقنا قد كب وجهه على (ساس) الحائط الجصي يبكي، وقد تمرغ بغبار الجدار الأبيض، وعندما أحس بوجودنا، التفت نحونا وقد اغرورقت عيناه بالدموع وتدثر وجهه الأسمر بغبار الجص الأبيض، فلم نتمالك أنفسنا من الضحك الصبياني لمنظر وجه صديقنا عبدالكريم الأسود المغطى بغبار الجص ضحكنا ضحكاً مراً، وقام عبدالكريم يشاركنا الضحك، وأخذناه إلى بيت أعمامه المشغولين عنه بفقد جدته التي أرضعتهم مع أبنائها، تركناه هناك يهذي ويذم حمى قفار التي قضت على جدته، وعاد كل واحد منا إلى منزله، والخيال الطفولي ينسج لنا صورا بشعة عن قفار وخرائبها التي تنعب عليها الغربان بعد أن هجرها أهلها إثر وباء الحمى المرعب، وعند دخولي شاهدت في منزلنا الطيني حركة احتفالية غريبة سمعتهم يتحدثون عن قدوم ابن عم لي لم أشاهده في حياتي، ولكن والدي تحدث عنه كثيراً، قال لي والدي إنه قام بتربية ابن عمي هذا بعد وفاة والديه، وإنه أحبه والتصق به، واصطحبه في سفره وقنصه. قالوا لي بأنه سوف يأتي من الظهران، وكأن الظهران كوكب من الكواكب البعيدة التي لا يمكن الوصول إليها، كان هذا الاسم (الظهران) مثيراً للدهشة، لما يرافق ذكره من الأشياء الغريبة، ولما يثار حوله من الحكايات عن (أرامكو) والزيت، والبشر، واللغات، والنصارى، والأكل والملابس، وكأن الظهران أسطورة بعيدة عن قريتنا التي تقبع وسط الرمال الشمالية كأنها ظبية كانسة بين البراخيص الرملية. قامت النساء بكنس الدار من الداخل والخارج شاهدت إحداهن تكنس وهي جالسة، لشدة تعبها وثقلها، بسبب الحمل، وكانت تقول عندما يطلب النساء منها ترك العمل: إذا لم أعمل اليوم فمتى أعمل؟ وكنت أنظر إلى الجدران في مجلس الرجال (القهوة) وقد اكتست بسواد من دخان الحطب، وتفاعلا مع هذا الاحتفاء تمنيت بصوت مرتفع لو أن جدران مجلسنا نظيفة وغير مغطاة بهذا السناج الذي قد يكدر منظره خاطر ابن عمي القادم من مدينة دخانها من ذهب، وبيوتها قوالب نظيفة من الحجارة والإسمنت، قلت ذلك لأبي، فضحك وضمني إلى صدره وهو يقول:
    - أتريدنا أن نغسل الجدران الطينية احتفاء بابن عمك؟ !.
    مرت ثلاثة أيام كأنها ثلاثة أعوام ونحن ننتظر قدومه، بشوق وانبهار لكل القادمين من الظهران، لأن الناس يشعرون بأنهم يمتازون عنهم في كل شي، كأنهم الربيع الذي ينتظر قدومه في كل عام، وجاء للقرية كالأمير وسيما طويلاً يتهلل وجهه بالبشر والنضارة، نظيف الثياب، يخطر بمشلح أشقر كالشلال، ينحدر من كتفيه على ظهره إلى عقبيه، وتنسدل على صدره سفيفتان من القصب المذهب يتدلى منهما (كثلتان)(2) أنيقتان واحدة تركها تتدلى، والأخرى يعبث بها بين أصابعه الفتية، وقد أدخل يده اليمنى مع كم البشت وراح يثبت وضع عقاله الذي مال على حاجبيه بعزة وثقة بهرني منظره عن الإقدام للسلام عليه، فمد يده نحوي وجذبني إليه بعتب وطبع قبلة على جانبي وجهي ومدلي حلاوة مغلفة بورق ذهبي جميل سمعت لها صريراً أثناء فتحها، وكنت أشاهد الفتيات يتزاحمن ويختلسن النظر إليه من شقوق الأبواب الخشبية.
    كل فتيات الجيران حضرن لمشاركتنا الاحتفاء بقدوم ابن عمي، كانت كل القرية هكذا تحتفي بقدوم أحد أبنائها، يفرح الأطفال والعجائز والشيوخ. أما الفتيان والفتيات فيغمرهم الخجل عن إبداء سرورهم وإعجابهم، ولكن حركاتهم وابتساماتهم تنم عن ما يعتمل في صدورهم يظهر ذلك عندما يخرج القادم مدعوا إلى شرب القهوة لدى أهل القرية، الذين يأخذونه بالدور، في البداية يكرمونه بشرب القهوة في منازلهم، ثم بعد ذلك يتناوبون بإقامة الولائم بالترتيب، وكأن القرية بيت واحد عمه البشر أوجاءه العيد مع هذا القادم، الرجال يرحبون ويسيرون معه، والشباب يحتفون به ويلبون مطالبه، والفتيات يلبسن جديد الثياب ويخطرن هنا وهناك كأن لهن شغلُ ُيقمن بأدائه عند مروره من بيت إلى بيت. يذهبن لجلب أوان لأهلهن عند الجيران، أو يقمن بإعادة ذلك الإناء الذي استعرنه بالأمس، أو يقمن بجلب الماء وصبه بمنتصف الطريق ثم العودة من جديد ليتصادفن معه فيلقي عليهن التحية ويرددن عليه بسرور، فيسأل من معه قائلاً:
    - هل هذه فلانة؟
    فترد بخجل قائله:
    - نعم... كله!!.
    فيقول مبتسماً: وشلونك وشلون أهلك 000
    فترد بصوت أنثوي رقيق:
    - طاب لونك،.. بخير.
    فيقول:
    - وشلون أمك،.. سلمي لي عليه.
    - فترد:
    - طيبة،.. سلمك الله من كل شر.
    ويواصل مسيره بينما الشباب يتهامسون قائلين:
    - كلنا نبي ننصا الظهران !!... مالنا مقعاد بهذا.
    سمعنا أحدهم يقول بحماسة:
    - إن قعدنا والله إن مابنا فرق عن (خواتنا)0
    أما نحن الصبيان، فقد بهرنا بهذا الحديث الذي لا ندرك معانيه، كل ما أدركه وقتها أنني تباهيت بابن عمي، فردوا بأن أبناء عمومتهم سوف يذهبون إلى الظهران بعد أيام ويعودون، وقد صاروا أفضل من ابن عمي. فقام لذلك عراك بالأيدي وتكويح بالتراب على وجه كل واحد منا من كف أحد الصبية الذي يغرز بكفه كمية من التراب ويعرضها بيننا وهو يقول تريّب الذلاّل !!
    ولأن كل واحد منا لا يريد أن يكون هو (الذلاّل) فإنه يضرب التراب في وجه الآخر، وأحياناً يكون كل التراب في وجه الذي حمله بكفه ليثير الفتنة !!.
    ذهب الرجال خلف الذي دعاهم إلى تناول القهوة عنده وسمعنا دوي دقاته لنجر (الرضم) أثناء إعداد القهوة تتخلل تلك الدقات قهقهات خلف المعروفة وأصوات الرجال التي ترتفع وتخرج مع الدخان الذي تنفثه النوافذ الضيقة القريبة من سقف المجلس، وكأنهم في عراك، تعالت ضحكاتهم وهم يتحدثون عن أحد أصدقائهم الذي ترك شركة (أرامكو)، لأن رئيسه أمره بصنفرة أحد الصهاريج بالفرشة الحديد والصنفرة، فأبى أن يعمل صفاراً وقال كلمته المشهورة (خلوا الشركة تتعطل، فلن أعمل هذا العمل المشين بيدي أبداً)، ظانا بأنها سوف تتعطل فعلا، وأنها لن تجد من يحل محله، وفي اليوم التالي جاء للعمل امتثالاً لنصيحة أحد الأصدقاء، فوجد أنه قد فصل من العمل، وأن الصهريج الحديدي قد نظف تماماً !!.
    أما نحن الصبية فقد كنا نجلس بعض الوقت مع الرجال ونستمع إلى أحاديثهم عن الفروسية والصيد وعن شركة أرامكو، وبعد موت جدة عبد الكريم، كثر حديثهم عن حمى قفار، فنتذكر منظر وجه عبد الكريم حين كان مغطى بغبار الجص فنضحك، ونصمت قليلاً، وعندما تصدر من أحدنا مثل هذه التصرفات الطفولية يطردونه من المجلس، فنفر معه كالعصافير حين تشاهد (الجلمة) أو (الباشق)، نذهب إلى حيث النساء يجلسن في الداخل، بجوار مجلس الرجال ويستمتعن بأحاديثهم وكان أكثر ما يدهشهن الحديث عن البحر وكثرة مياهه، وما يقال من أن (داخله مفقود، وخارجه مولود) ولكن كل الناس يتمنون الذهاب إلى البحر، ففيه جاذبية علمها عند الله، وأثناء استماع النساء لحديث الرجال عن البحر وعن مخاطره وعن سنة الطبعة التي يتحدث عنها أهل الخليج - مثل حديث أهل قريتنا عن حمى قفار- قام أحد الصبية بإزعاج أخته محاولاً لفت انتباهها له فضربته على ظهره وهي تقول:
    - (اسكت ياملا حمى قفار اللي ترجدك وتهجدك)!!.
    فضرب أخته وكوحها بالتراب ثم هرب وهربنا معه إلى مجلس الرجال، فقال لنا صاحب الدار: اجلسوا بعقل أو تقلعوا عنا!!0
    قال رجل منهم:
    - دعهم... فإنهم رجال عاقلون !!.
    قال:
    - وين هم وين العقل، الله يهديك !!.
    ولنثبت قول الذي أثنى علينا، تظاهرنا بالعقل قدر استطاعتنا، وبين الحين والحين تندعنا (بخة) ضحك مكتومة ، تجذب إلينا عيون الرجال ، فننكس رؤوسنا خجلاً.
    نهض الرجال من مجلسهم وتفرقوا إلى بيوتهم على أمل اللقاء عند الغروب في منزل الذي يقيم الوليمة الليلة، واجتمعوا مثل كل ليلة، حكايات وسواليف لاتنتهي، يقص بعضها كبار السن الذين مرت عليهم تجارب كثيرة من المآثر الحسنة والمآسي المحزنة، بعضها عن حمى قفار، وبعضها عن الظهران وما فيه من العجائب والغرائب، يقصها عليهم ابن عمي (سعد)، الذي مضى على إجازته ثلاثة أسابيع وأنا اسمع بأنه سوف يتزوج من أجمل فتيات القرية التي طالما خلبت ألباب الشباب، ولكنها لا تلتفت إليهم لأنها تحب (سعداً)، وتنتظر الساعة التي تجمعها به. كانت الرسائل الشفوية تنقل بينهما بواسطة النساء، من أقاربه ومن أقاربها، وتم ترتيب الأمور ليتقدم لخطبتها من والدها الذي اعتذر بأسف لأنه قد زوجها منذ يومين وأن حفل الزواج سوف يقام الأسبوع القادم.
    لم يسعد هذا النبأ أحداً من أهل القرية سوى رجل واحد هو هلال الذي امتطته الغيرة وأكل الحقد قلبه، كما أكل الجدري وجهه، وعينا ونصف عين فصار يتجرع القهر بنصف عين يشاهد بها الأسوياء، ويقارنهم بوجهه المليح الذي لعب به الجدري وجعله شبيهاً بالأرض الرطبة التي نبشتها الطيور، هلال هو الرجل الوحيد في القرية الذي أسعده حزن سعد وأهل سعد، فرح بكدرهم، وهم لا يعلمون ما يحمله في نفسه عليهم من الحقد؛ لأنه يظهر لهم المودة والتملق.
    عاد ابن عمي ووالدي صامتين إلى أن دخلا إلى المجلس، فجلس ابن عمي في مكان (المقهوي) وصب لوالدي فنجاناً من القهوة المرة وهو يقول:
    - سوف أغادر غداً.. ياعم.. إلى الظهران!!.
    - ابتسم والدي وهو يقول:
    - ياما بالبر من الصيد يا سعد، نبي نقنص بسيارتك (للمسمى، وحـبران) !! يذكر فيه صيد واجد، يقولون بأن جمايل الصيد مثل رعايا الغنم.
    - قال له ذلك لأنه يدرك ما يعتلج في خاطر سعد من المشاعر المتأججة تجاه تلك الفتاة التي لم تكن من نصيبه.
    أشرقت أسارير سعد؛ لأنه وجد المخرج الذي يحول بينه وبين حضور زفاف لا تسعده رؤيته، ويعلم أنه لا يحتمل مشاهدة العيون الشامتة بتحطم مشاعره، وقال:
    - حسنا تفعل يا عمي، لا أطيق البقاء هنا، من هذه اللحظة، أتمنى أن أبتعد عن هذا المكان...
    فقال له عمه:
    - خير.. لا تكره ولا تحب (وحنا باكر إن شاء الله ماشين، وش ورانا؟، الفلاحة ضاعت.. غصب، وعسى عادت... تلك الضيعة).
    قال سعد:
    - (ما القصد الفلاحة، القصد أنها وخذت غصب ياعم، وألا هي ماهي هم).
    فقال له عمه:
    - يا ولدي يقول الشاعر:

    يمنى بلا يسرى تراها ضعيفة * * * ورجل بلا ربع على الغبن صبار
    الطير بالجنحان ما احلى رفيفه * * * وليا انكسر حدا الجناحين ما طار


    التفت سعد نحو جهاز الراديو الذي أحضره معه وأدار مفتاحه وهو يقول:
    - نعم.. نعم.. أكيد.
    كان الراديو يتحدث ومشاعري يدغدغها ذلك الحديث الذي يصدر عن ذلك الصندوق الخشبي، والمؤشر المرتكز في وسط الزجاجة ذات الأرقام، الذي يتحرك يميناً وشمالاً، ومع كل حركة صوت يهز المشاعر ويثير الضحك عندي، فينظرون إليَّ بتعجب واستخفاف لكل هذا الانفعال تجاه هذا الجهاز الذي يجلب لمجلسنا أكثر أهل القرية، ينسجون حول هذا الصندوق الكثير من الأساطير، ويقولون إنه محشور بداخله مجموعة من الجن، فنصدقهم نحن الأطفال ونحاول الاقتراب من الصندوق العجيب لعلنا نحظى بلمحة لهؤلاء الذين يوصوصون بداخله، وعندما نتزاحم حولـه يطردوننا؛ لأنهم يرغبون متابعة الأخبار كما يقولون، سمعتهم يتحدثون عن (العدوان الثلاثي على مصر) الذي لم يكن يعني لي شيئا وقتها وكنت أتصور أنه قريب من (تريّب الذلال) الذي نفعله عندما يتشاجر اثنان منا. ولكن ملامح الجد التي تظهر على وجه ابن عمي توحي لي بأن (العدوان الثلاثي) لابد أن يكون أكثر أهمية من (تريب الذلال) الذي نفعله كل يوم تقريباً. شاهدته يمتعض ويتلفظ بأسماء لم أسمع بها من قبل (بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل...)، والعرب و(مؤامرة) ضد العرب، لم أستطع أن أعرف من كل ذلك الكلام أي كلمة سوى العرب التي تعني لي الجيران، أو الأقارب، والكلمات الأجنبية لم تكن تهمني بقدر ما كانت تشغلني كلمة (مؤامرة) التي أعرف أنها كلمة عربية بالإحساس، ولكنني لا أعرف لها أي معنى، لا أدرى هل هي تعني الأقارب، أم الأباعد، أم أنها اسم لرجل أو امرأة، ولماذا هي ضد العرب ؟ فأقنعت نفسي بأنه اسم لامرأة لا أعرفها ولا يعرفها من هم في سني من الأطفال، ولكن ربما يعرفها الكبار، ولأنها من شأن الكبار فليس من الضروري أن أتعرف عليها مادامت لا تسكن في قريتنا. الذي يهمني هو رؤيتي لابن عمي وقد أسند ظهره على الجدار، دليلاً على انتهاء الأخبار المملة وبداية برنامج البادية، أو موسيقى القرب التي تشنف الآذان وتهتز لها مشاعرنا الصغيرة، وكان الشيء الذي يزعجني هو كثرة الطلبات لصب القهوة، وجلب الحطب ووضعه على النار، كل ذلك يحدث بلا مبرر يستحق حرماني من الاستمتاع بمواصلة سماع ما يصدر عن ذلك الصندوق العجيب، الذي جاء لقريتنا لأول مرة بينما هم يواصلون احتساء القهوة والاستماع إلى المذياع، ويعيدون قولهم: (صب قهوة ياولد، جب حطب، جب لبن، شب النار، ياميت النار !! قرب الدلة على الجمر لا تبرد القهوة)، وكل منهم مستمر بشرب القهوة، والماء، واللبن، و… (لو أنهم يروون قرباً قد ملؤوها)!!.
    رأيتهم يستعدون للقنص، يملؤون المزاود بالطعام، و القرب وخزانات السيارة بالمياه، ويخرجون بنادقهم من أجربتها وينظفونها ويدهنونها، ويفهقون شيطانها، ويضغطون على زنادها فتطلق صوتاً من إبرتها على موضع "القمر" يستمر رنينها لفترة وجيزة ثم يصمت، انفرجت أسارير والدي لهذا الاستعداد الذي يمثل هوايته المفضلة، وطلب من أحد الذين يقومون بتنظيف بندقيته مناولته إياها، قائلاً وهو يمد يده له مبتسماً:
    - (أشوف مده) ؟
    - فمدها له وهو يقول:
    - خذها مكفي شره0
    فضحك الاثنان للمعنى البعيد الذي يحمله كل واحد منهما في ذاكرته عن هذه الكلمة، وتفحصها، مقلباً إياها بين يديه وهو يقول:
    - ما شاء الله أويا والله بندق يا...
    فقال صاحب البندق:
    - بالعرضة يا أبو الوليد... خذها هدية.
    فرد عليه:
    - ما توخذ عقبك يا أبو شيمة
    غردت في صدري عصافير السعادة لمغادرة (القنوص) القرية، لأمتلك حريتي في اللعب كما يحلو لي والقفز فوق أشجار البساتين، وجدرانها وتكسير أغصانها، وصيد العصافير بالفخاخ و النبال، ووضع (تريب الذلال) على كفي بين المتشاجرين لنشاهد من الذي يقذف في وجه الآخر هذه اللعبة القبيحة التي كان يحرمني منها والدي، ويعتبرها ذميمة لا يليق بي أن أمارسها، كما كان يفعل أترابي، وكنت أتمنى أن تتاح لي الفرصة، وهاهي أوشكت على الاقتراب عندما يغادر القنوص من القرية وعلى رأسهم والدي، سأفتح المذياع (بكيفي)، وأستمع له مع أصدقائي ونجعله (يوصوص) كما نشتهي، ويرسم لنا خيالات لاتحد عن الظهران، ورحيمة التي تتوسد البحر وترسل الزيت - كما سمعتهم يقولون- لجميع أنحاء العالم، كنت غارقاً في هذه الأفكار، حين انتشلني صوت أبي الحازم وهو يقول:
    - قم هات (البارود) من الدار، وقل لهم لا ينسون عكة الدهن ، خلهم يحطونها مع الزهاب.
    أحضرت البندق (البارود) كما قال لي والدي وأبلغتهم عن وضع العكة مع الزهاب، وكانت خيبة أملي كبيرة عندما شاهدت ابن عمي يحمل (الراديو) بين يديه ويضعه في (سحارة) الحوض الخلفي للسيارة، لم أجد ضرورة لأخذ الراديو معهم، بالإضافة إلى راديو السيارة!! وهذا التصرف الغامض بالنسبة لي شبيه بغموض كلمة (مؤامرة) التي لم أستطع معرفتها. انزلقت نظرتي عن يد ابن عمي التي وضعت الراديو داخل السحارة، وهبطت على (برميل) البنزين الذي تلمع جوانبه ويحتل الزاوية الأمامية القريبة من السحارة، وتتراكم فوقه الأغطية المطوية فتبخر جزء من سعادتي كما يتبخر البانزين من الفتحة الصغيرة في طرف (برميل) الوقود، وصرت أعلل النفس بالآمال الطوال العراض في اللعب، رغم أنني وأصحابي الصغار سوف نفقد الضحك على وصوصات الراديو، جاء بعض أصحابي فسألوني عن الراديو، الذي لم يكن في مكانه فتهربت من الإجابة بالإشارة بإصبعي إلى صورنا المنتفخة على باب السيارة اللامع، وعند مشاهدتنا لبعضنا ضحكنا على أشكال أنوفنا المتورمة، وعيوننا الجاحظة، وذقوننا التي تحولت إلى شكل دموع تكاد تقطر على صدورنا، ونسينا موضوع الراديو المفقود، ولم ينتزعنا من لهونا سوى إدارة محرك السيارة حين ركبها الرجال الذين صاحوا بنا، طالبين منا الابتعاد عن السيارة، لتتمكن من الانطلاق، فاندفعت إلى الأمام وارتدت إلى الخلف ثم انطلقت بعد أن نبثت عجلاتها التراب، متجهة إلى الجنوب الشرقي، تنهب المرتفع الرملي الذي يحيط بالقرية، ويكون أكثر علواً من تلك الناحية. بدت السيارة الحمراء فوق الرمال كقطعة من عقيق تتدحرج على كوم من الذهب غابت عن الأنظار، ولم يلبث الغبار أن تطاير خلفها كأنه السياج الذي يتمدد كلما أمعنت السيارة في انطلاقها على السهل الممتد باتجاه الجبال التي ظهرت عن بعد بلونها الأزرق الداكن الرائع، والسماء من خلفها صافية كالبحر الساكن. غابت السيارة في فم الجبل الواسع، وتجدد الغبار على الطريق ومات هناك إلى أن تأتي سيارة أو ريح توقظه من جديد ثم يهمد مرة أخرى. الغبار لا يمكن أن يتحرك من ذاته فليس له إرادة تمكنه من النمو أو الحياة، بعد أن ذهبت السيارة والراديو، همدت مشاعرنا الطفولية مثلما همد الغبار، وبدأنا بالتثاؤب، لا سيارة ننظر في أبوابها إلى صورنا ونضحك، ولا راديو يوصوص فيمتعنا، فعدنا إلى بيوتنا الطينية الجامدة ننتظر شيئاً جديداً يوقظ السرور في صدورنا التي استيقظ فيها الحزن على فقد الراديو، وفقد جدة عبدالكريم بسبب حمى قفار .

    معاني الكلمات :-

    1 - الوليشة : رمة الحيوان النافق ،،،

    2 - الكثلة: الهدبة المتدلية من البشت، أو من السبحة ،،،

    وما تعسر عليكم من كلمات فمالكم الا الله ثم العــزيـز عبدالعزيز

    إن كان هناك من متابعين للأحداث ؛ متلهفين

    فـ للحديث " الرواية " بقية !؟


    ولكم التحيــــــة ...




    اللهم اصرف عني السوء والفحشاء
    واجعلني من عبادك المخلصين

  2. #2
    مشرف مضيف الشعر النبطي الصورة الرمزية هايس الشمري


    تاريخ التسجيل
    10 2002
    الدولة
    Riyadh
    العمر
    40
    المشاركات
    6,456
    المشاركات
    6,456


    - هل هذه فلانة؟
    فترد بخجل قائله:
    - نعم... كله!!.
    فيقول مبتسماً: وشلونك وشلون أهلك 000
    فترد بصوت أنثوي رقيق:
    - طاب لونك،.. بخير.
    فيقول:
    - وشلون أمك،.. سلمي لي عليه.
    - فترد:
    - طيبة،.. سلمك الله من كل شر.
    ويواصل مسيره بينما الشباب يتهامسون قائلين:
    - كلنا نبي ننصا الظهران !!... مالنا مقعاد بهذا.
    سمعنا أحدهم يقول بحماسة:
    - إن قعدنا والله إن مابنا فرق عن (خواتنا)0





    يزعجني هو كثرة الطلبات لصب القهوة، وجلب الحطب ووضعه على النار، كل ذلك يحدث بلا مبرر يستحق حرماني من الاستمتاع بمواصلة سماع ما يصدر عن ذلك الصندوق العجيب، الذي جاء لقريتنا لأول مرة بينما هم يواصلون احتساء القهوة والاستماع إلى المذياع، ويعيدون قولهم: (صب قهوة ياولد، جب حطب، جب لبن، شب النار، ياميت النار !! قرب الدلة على الجمر لا تبرد القهوة)، وكل منهم مستمر بشرب القهوة، والماء، واللبن، و… (لو أنهم يروون قرباً قد ملؤوها)!!.



    رواية ممتعة يبو فيصل



    ايه كمل نبي نشوف وش صار على خوينا هذا

    هو يبي يكبر او وش يبي يسوي




    شكرا لك


    و دمت بخير



    يقول المولى عزَّ وجلَّ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"

  3. #3
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    ايراد رائع وجميل ..
    وعالم من القصة والأدب .. أكثر من ممتاز .. ونحن بحاجة للإطلاع على ثقافات و مؤلفات الأدباء العرب ..
    شكراُ أبو فيصل ..
    والله يعطيك العافية أخـــــــــي ..



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  4. #4
    كبار الشخصيات الصورة الرمزية راعي الوقيد


    تاريخ التسجيل
    12 2003
    الدولة
    الوقيد
    المشاركات
    11,178
    المشاركات
    11,178



    [poem=font="Simplified Arabic,5,white,bold,normal" bkcolor="black" bkimage="" border="none,medium,gray" type=3 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
    " أمة إقرأ لا تقرأ " مقولة خاطئة .. لنثبت ذلك و نسموا بأنفسنا ..[/poem]


    رواية ممتعة يبو فيصل



    ايه كمل نبي نشوف وش صار على خوينا هذا

    هو يبي يكبر او وش يبي يسوي
    الكاتب : هايس الشمري

    الحقيقة انا قرأتها كاملة واعجبتني لمتعتها اولا وللفائدة التي استفدتها

    من احداث قصتها

    فـ على شان كذا طرحت جزء الرواية الاول للقراء ليقرؤها

    العفو يالذيب .. وانتظر باقي الأجزاء بعدحي

    لك التحية ...




    اللهم اصرف عني السوء والفحشاء
    واجعلني من عبادك المخلصين

  5. #5
    كبار الشخصيات الصورة الرمزية راعي الوقيد


    تاريخ التسجيل
    12 2003
    الدولة
    الوقيد
    المشاركات
    11,178
    المشاركات
    11,178


    العفووووو اختــــــــــــي

    والله يعافيكِ ويبارك فيك ِ

    لك التحيــــــــة ...




    اللهم اصرف عني السوء والفحشاء
    واجعلني من عبادك المخلصين

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-12-2008, 04:24
  2. مثقفون شيعة يرفضون "المرجعية" ويطالبون بمراجعة "ولاية الفقيه" و "إعطاء الخمس"
    بواسطة عبدالله المهيني في المنتدى مضيف المشاركات المنقولة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 21-11-2008, 01:57
  3. هل تريد قراءة رواية الرد على رواية بنات الرياض الكترونيا؟!!
    بواسطة ابراهيم الصقر في المنتدى المضيف العام
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 31-05-2008, 14:11
  4. صدور العدد الأول من صحيفة "زوايا شعبيه"
    بواسطة المشرف العام في المنتدى المضيف الإعلامي
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 14-02-2006, 15:59
  5. "المظبي" و"المندي" و"الحنيذ" وراء انتشار السرطان
    بواسطة ابو مشاري الشمري في المنتدى مضيف الطب والطب البديل
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 11-12-2003, 03:01

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع ما يطرح بالمضايف يعبر عن وجهة نظر صاحبه وعلى مسؤوليته ولا يعبر بالضرورة عن رأي رسمي لإدارة شبكة شمر أو مضايفها
تحذير : استنادا لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية بالمملكة العربية السعودية, يجرم كل من يحاول العبث بأي طريقة كانت في هذا الموقع أو محتوياته