بسم الله الرحمن الرحيم
لقد برز من شمر رجال عظام خلدهم التاريخ بمآثر وطنية خالد ، ومن الانصاف أن نذكر بعض هذه المآثر الوطنية لاحد شيوخ شمر الذي قارع الانجليز في العراق وكان علما بارزا ً من أعلام الحركة الوطنية ضد المستعمرين
ومن كتاب بعنوان الشيخ ضاري قاتل الكولونيل ((لجمن)) في خان النقطة تأليف : عبدالحميد العلوجي وعزيز جاسم الحجية
نقرأ سيرة هذا البدوي الشجاع ، البدوي الغيور على شرف قومه وشرفه ما يسجل المآثر العربية الصادقة
اتفق النسابون على أن ضاري هو ضاري بن ظاهر بن محمود بن ظاهر بن حمام ويعود نسبه إلى محمد الحارثي الزوبعي من قبيلة شمر ، كان والد ضاري يحبه حبا جما ، واستقدم له معلما من بغداد يعلمه القراءة والكتابة وكان لضاري أخ أصغر منه إسمه درع كا أن إخوةآخرين أجمعوا جميعا على مشيخة ضاري عليهم وعلى زوبع جميعها وهو في مقتبل عمره حيث ساد عشيرته وهو صغير بالسن وولد ضاري عام 1284هـ/1868م وتزوج بسبعة من النساء فكان له منهن أبنائه :
خميس - يليمان - حميد - أحمد - الحميدي - عبدالكريم - فرحان ، وكان مولعا بأخبار القدامى.
هذه صورة للشيخ ضاري المحمود :
إدعى جواسيس الانكليز في العراق في تقاريرهم السرية أن زوبع كانت قبل الحرب ضعيفة التسلح ، ولكنها إستعدت وتكامل سلاحها خلال الحرب ، وأدخلت الانكليز في روع وفزع وأنها لن تهدأ معهم وأنها ستعكر صفوفهم وأمنهم ..
موقف ضاري من الغزو الاجنبي
عالج التقرير السري لدائرة الاستخبارات البريطانية الموقف العشائري في منطقة الدليم بعد احتلال بغداد فأشار إلى أصدقاء الانكليز من رؤساء بعض العشائر ، وسكت عن الشيخ ضاري بلا علة ويعتبر هذا السكوت في مصلحة ضاري وسمعته المعهودة ، لانه عرف بمناوأته الصريحة لقوات الاحتلال .
وتدل التقارير التي كانت في حوزة لجمن وهو القائد البريطاني الذي قتله ضاري : على أن الشيخ ضاري كان معروفا بنزعته العدائية للانكليز في العهد العثماني ، وفي زمن الاحتلال وأنه لم يتقرب إلى الحكام السياسين في يوم من الايام ، ولم يتزلف إليهم ، وهذا يفيد إن الانكليز أنفسهم يعرفون أنه كان خصمهم العنيد ، فقد ركب ذات يوم حصانه ومعه أخوه شلال وإبنه سليمان إلى جسر قراره في جنوب بغداد ، وإجتمع بالقائد التركي نور الدين في خيمته الخاصة ليعدا خطة الهجوم على الانكليز ، وقد كلف شلال وسليمان بتموين المحاربين ، واشترك ضاري في معارك عديده ضد الانكليز وأشرف على الاسرى من جنودهم بعد حصار الكوت ، وأسهم في معركة (اصطبلات) الطاحنة بين الاتراك والانكليز ولاذ بالرمادي حيث إتصل بالقائد التركي (أحمد بك أوراق) واتفقا على النزول بجانب الجزيرة وهناك تعاون مع الشيخ حردان على مناهضة جيوش الاحتلال .
واتصل الانكليز بعد ذلك بضاري وحردان للمفاوضة على الصلح ولم يؤد هذا الاتصال الى نتيجة
حز في نفس لجمن وهو سيد البادية حينذاك وكان يسمي نفسه(لجيمان) أن ينطلق ضاري على هواه في سلوكه ضد الانكليز ويناصبهم العداء ويقاوم تعسفهم وسطوتهم فأراد أن يكبح جماحه ويروضه على الطاعه ، فطلب الاجتماع بع عدة مرات ولكن ضاري كان يرفض ذلك .
وبعد إلحاح من لجمن وافق ضاري على مقابلة لجمن في خان النقطة وكان يسمى خان ضاري لانه هو الذي بناه ولكن الانكليز سموه خان النقطة.
صورة للقائد لجمان الذي قتل :
جاء ضاري إلى الخان سنة 1920م وفي شهر آب منه ، معه ولداه خميس وسليمان وابناء اخيه مجباس: صعب وصليبي وجماعة من اقربائه بينهم دحام الفرحان وبينهم وعشرون فارسا شجاعا من عشيرته حيث تقابل معه وطالبه لجمن بتسليم لفيف من المجرمين الذي ادعى انهم يسلبون رجاله وأنهم لايزالون على مقربة من مكانتهم ، وطلب إليه ضاري أن يتعاونا على قبضهم إن كان حقيقة ما يظن ووضع تحت تصرف لجمن خمسة من رجاله ، معهم ضاري ابن ضاري لالقاء القبض على الجناة . وأن هذا الموقف قد افتعله لجمن لتستقيم مكيدة تبرر الايقاع بزوبع ورئيسها .
ومما يؤكد ذلك أن لجمن طلب من ضاري فوق ذلك أن يقوم بحراسة الطريق بين الرمادي وبغداد ، وأن ضاريا قد اعتذر وأنه لايتمكن من مقاومة العشائر التي أثرت فيهم ونازعتهم وحينئذ قال له لجمن : (إن موقفك هذا يعتبر خيانة) ، وبالاضافة إلى ذلك فقد اتهم ضاري بالسرقة أيضا وألقى على عاتقه تبعة الاخلال بالامن ونسب إليه وإلى عشيرته زوبع حادثة السلب وذلك بكلمات جارحة ، وبعد هذا أيقن الشيخ ضاري أن لجم سيفتك به لامحالة ، ولذلك ثارت حميته وغضب ، فاستأذن منه ليعود بعد قليل ومعه ولده خميس ورجل آخر من رجاله فرماه ضاري بطلقة نارية فسقط علىإثرها قتيلا . وبعدها إستل سيفه وأجهز عليه .
لقد كان الشيخ ضاري كما تحدث عنه ولده سليمان يد حمراء في الثورة العراقية الكبرى ، وكانت له مراسلات مع كربلاء والنجف وبغداد وفي أحد الايام جمع لجمن رؤساء القبائل ، في الرمادي وكان بينهم الشيخ ضاري وأقم لهم مأدبة عامرة وبعد الانتهاء من الطعام فاتحهم في المقوف الراهن ، وقال : أنه يود الوقوف على رأيهم باعتبارهم عشائر من أهل السنة ، في ضد الثوار الشيعة الذين يطالبون السلطات الانكليزية بقيام حكومة مستقلة
واستغل الشيخ ضاري عنئذ الموقف فلم يفسح المجال لاحد من المجتمعين بالكلام ، وإنما نهض قائما ليقول : لا تذكر يا لجمن كلمة ((شيعة)) فليس في ديننا سنة ولا شيعة ، بل هناك دين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة واجماع على تشكيل حكومة وطنية ، فإذا لبيتم مطاليب الثورة فإن الاستقرار والام يسودان العراق. وإنني في موقفي هذا أخاطبك بلسان المجتمعين . وهنا سكت لجمن وقال : أنتم عشائر والاجدر بكم أن تكونوا مستقلين. وعنئذ غضب لجمن على الشيخ ضاري حتى كانت النهاية
لقد قتل بطل الصحراء( ضاري المحمود) شيطان الصحراء(لجمن) ، لقد حاول الانكليز الانتقام من الشيخ ضاري وعشيرته زوبع وجهزت الحملة تلو الحملة للقضاء عليه والشيخ ضاري صامد مع أقاربه زوبع حيث جمعهم مرة وخطب فيهم قائلا :
(إن هذا هو أمر الله ، وتلك هي مشيئته وهو مقدر علينا محتوم ، وإني أوصيكم أن تكونوا رجالا صابرين على البلوى وعلى مايصيبكم ، واتفقوا ولا تتفرقوا)
بقي الشيخ ضاري والذين معه خارج المدن والقصبات في عصمة شمال الجزيرة على الحدود المشتركة بين العراق وسورية ، وهم يكابدون حياة التشرد زهاء سبع سنوات وتكاثر نسل زوبع في هذا المهجر ، بالرغم من صعوبة الحياة وشظف العيش ، وإن أبناء الشيخ سليمان بن ضاري وكردي ومحمد ومحمود ، ولدوا هناك في مراتع نصيبين..
نهاية الشيخ ضاري بن محمود
لقد رصدت الحكومة الانكليزية مبلغ 10000 ألاف روبية لمن يأتي بالشيخ ضاري حياً أو ميتاً ، فسولت نفس السائق الارمني أن يكون هو رابح هذاالمبلغ ، فهو قد عرف ضاريا ولذلك أكثر من التردد على البادية للكيد تمهيدا لالقاء القبض عليه ، وظل يشتغل في سيارته مدة طويلة في الانحاء التي كان ضاري يختلف إليها .
وعرف ذات يوم أن ضاريا يريد السفر من الحسكة إلى مكان يعرف بأبي حامضة في الجزيرةالسورية ، وعرف أنه أحوج ما يكون إلى سيارة ومن هنا عزم على تدبير المكيدة ، فأوعز إلى أحد أقاربه المترددين على تلك الجهات بإنتظار سيارته التي ستحمل ضاري في موقع جرى الاتفاق عليه مع جاسوسين من عملاء الانكليز وركب ضاري السيارة دون أن يرافقه أحد من أبناء عشيرته ، لانه كان مطمئنا على نفسه ، وحسن الظن بهذا السائق الذي غعتاد ركوب سيارته في مناسبات كثيرة ، وبذلك تمت المكيدة ووقع ضاري في الفخ الذي نصب له. حيث تم تسليمه إلى مخفر سنجار عام 1345هـ/1928م ثم أرسل مخفورا إلى الموصل ومنها إلى بغداد تحت الحراسة المشددة ، وكان الشيخ ضاري في هذه الاثناء مريضا ولم تسمح السلطة القائمة في بغداد بمعالجته رغم شيخوخته وتدهور صحته.
وفي عام 1928م وفي الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني حوكم أمام محكمة الجزاء الكبرى وأصدرت عليه الحكم بالاعدام شنقا حتى الموت رغم مطالبة الادعاء العام ببرائته.
ثم إستبدل بقرار الاعدام السجن المؤبد ، وقد تطوع في الدفعا عنه بعض المحامين الوطنيينحينذاك
ومات هذا الرجل العظيم فجر يوم الاول من شهر شباط سنة 1928م
وقد أنشد الشعراء جل قصائدهم في الشيخ ضاري وقتله للجمن :
او لخبرك ما جرى بلجمن أو صار = من نوى يستعبد بعزمه الاحرار
عرب شيمتهم ابت تحمل العار = امعلمه تكود الخصيم كياده
وصدرت جريدة الاستقلال البغدادي صباح يوم الخميس في الثاني من شهر شباط 1928م مجللة بالسواد وهي تعلن بعض العناوين :
& مات ضاري المحمود
& بغدادفي مأتم
& أخريات أيام الشيخ ضاري
& يا ضربة حرٍ لن ننساها هز لندن ضاري وبكاها فلتدفن لندن موتاها
& يا ضاري ياباسل يا ضاري
فلينهدم الاستعامر الغاشم يا ضاري
ولنغسل أرض الوطن من أدران الاستعمار
ولنخلق من ضاري رمزا للثوار
في كل مكان من وطني .. في المصنع والحقل وفي الدار
ولنخلد ذكرا ثورتنا .. ولنخلد ذكرى الثوار الاحرار
لتقول بعد ذلك :
الشيخ ضاري نار على علم ، يحبه العراقيون حبا جما ، ويقدسه المخلصون منهم تقديسا تخفق لذكراه القلوب ، وتهفو لاسمه الارواح ، لانه لم يكن كسائر الناس ، وإنما الكل يعتقد فيه الاخلاص والشهامة والاباء العربي الصميم ، ويرى شخصيته المحبوبة نور الامال الوطنية والاماني القومية ، ويضني النفوس الحرة البريئة ولكن المقادير التي اعتادت أن تفت في عضد الرجال الاحرار شاءت أن يؤتى بهذا الشيخ الجليل مثقلا بالقيود والاصفاد ، متهما بجرائم سياسية وقعت إبان الثورة العراقية عام 1920م وهي المتعلقة بمقتل الكولونيل لجمن
دفت الشيخ ضاري في مقبرة الشيخ داوود الطائي بين جموع مودعة من المتظاهرين وقد زرعت في قلوبهم الاسى والاسف على موت هذا الشهيد البطل.
هذه ابيات لاحد الشعراء باللغة الفصحى قيلت في الشيخ ضاري :
ولما قضى في الله حبسا مقيدا = بأيدي أعداء الاله يعذب
هو الرجل المقدام والبطل الذي = سما هامة الجوزاء في الله يطلب
هو الشيخ ضاري الهمام الذي به = علت آل قحطان المران المراتب
فناحت عليه الجن بالنوح والبكا = وزلزل العرش شرق ومغرب
ففاتحه الله الكريم لروحه = فأرخه : ضاري في الجنان يقلب
إذا هذا هو أحد أبطال البادية ضاري المحمود الزوبعي الشمري ذلك الثائر الذي إنطلق ممتطيا صهوة جواده ، ممتشقا حسامه ، مؤمنا بربه ، مقاتلا في سبيل قيمه ومثله ، نعم هذا هو شأن ابطال البادية رحمهم الله جميعا
المرجع
ـــــــــــــــــــ
* كتاب البادية نقلا عن كتاب ضاري قاتل الكولونيل (لجمن) في خان النقطة تأليف : عبدالحميد العلوجي وعزيز جاسم الحجية
* موسوعة القبائل العربية بحوث ميدانية وتاريخية ، تأليف محمد سليمان الطيب المجلد السابع
المفضلات